الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " ولو قال أنت علي حرام يريد تحريمها بلا طلاق فعليه كفارة يمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم جاريته فأمر بكفارة يمين ( قال الشافعي ) رحمه الله لأنهما تحريم فرجين حلين بما لم يحرما به " .

قال الماوردي : وهذا كما قال . إذا قال الرجل لزوجته : أنت علي حرام ، فإن أراد به الطلاق ، كان طلاقا يقع من عدده ما نواه ، من واحدة أو اثنتين أو ثلاث ، وإن لم ينو عددا ، كانت واحدة رجعية ، وإن أراد به الظهار كان ظهارا ، وإن أراد به الإيلاء [ ص: 183 ] لم يكن إيلاء ، لأن الإيلاء يمين لا ينعقد بالكناية وإن أراد به تحريم وطئها لم يحرم ، ولزمه كفارة يمين ، وإن لم يكن له إرادة لم يتعلق به طلاق ولا ظهار ولا تحريم ، وهل تجب به كفارة يمين أم لا ؟ على قولين ذكرهما في " الإملاء " . ولو قال لأمته : أنت علي حرام ، فإن أراد به عتقها ، عتقت وإن أراد تحريم وطئها لم تحرم وكفر كفارة يمين ، وإن لم يكن أراد لزمته كفارة يمين قولا واحدا .

ومن أصحابنا من قال على قولين كالحرة ، ومنهم من أخرج الحرة والأمة في وجوب الكفارة عند فقد الإرادة على ثلاثة أقاويل :

أحدها : تجب في الحرة والأمة .

والثاني : لا تجب في الحرة ولا في الأمة .

والثالث : تجب في الأمة ، ولا تجب في الحرة ، لأن التحريم في الأمة أصل ، وفي الحرة فرع ولا ينعقد به في الأحوال كلها يمين ، هذا مذهبنا .

وقد اختلف الصحابة ثم التابعون - رضي الله عنهم - في لفظ التحريم الذي يوجب إذا فقدت فيه الإرادة على ثمانية أقاويل :

أحدها : ما حكي عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنها يمين يجب بها إذا حنث كفارة يمين ، وبه قالت عائشة والأوزاعي .

والثاني : ما حكي عن عمر - رضي الله عنه - أنها طلقة رجعية ، وبه قال الزهري .

والثالث : ما حكي عن عثمان - رضي الله عنه - أنه يكون ظهارا تجب به كفارة الظهار وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس ، وبه قال : سعيد بن جبير وأحمد بن حنبل .

والرابع : ما روي عن علي - رضي الله عنه - أنه يكون طلاقا لا تحل منه إلا بعد زوج ، وبه قال زيد بن ثابت وأبو هريرة ، وابن أبي ليلى ومالك .

والخامس : ما حكي عن ابن مسعود ، وابن عمر ، أنه تجب به كفارة يمين ، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس وأحد قولي الشافعي ، وبه قال إسحاق بن راهويه .

والسادس : ما حكي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، ومسروق أنه لا شيء فيه .

قال أبو سلمة : ما أبالي حرمتها أو حرمت ماء البئر ، وقال مسروق : ما أبالي حرمتها أو حرمت قصعة ثريد ، وبه قال الشعبي ، وهو أحد قولي الشافعي .

والسابع : ما حكي عن النخعي أنها طلقة بائن ، وبه قال الحكم بن عيينة ، وحماد بن أبي سليمان وسفيان الثوري .

[ ص: 184 ] والثامن : ما حكي عن أبي حنيفة ، أنه يكون إيلاء ، يؤجل فيه أربعة أشهر ، فإن وطئ فعليه كفارة يمين ، وإن لم يطأ حتى مضت أربعة أشهر طلقت طلقة بائنة ، فيصير قوله موافقا لقول أبي بكر - رضي الله عنه - أنها يمين ، ثم يزيد عليه بما يعلق عليها من حكم الإيلاء ، ويقول إنه لو حرم طعامه أو ماله على نفسه كان يمينا يلزمه بها كفارة يمين ولا يلزمه عند الشافعي ، بتحريم طعامه وماله كفارة .

واستدل أبو حنيفة على أن التحريم يمين يوجب ما ذكره من الإيلاء والكفارة بقوله تعالى : ياأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم [ التحريم : 1 ، 2 ] . فكان استدلالا بذلك من وجهين :

أحدهما : أن الذي حرمه على نفسه مختلف فيه ، فحكى عروة وابن أبي مليكة ، أنه حرم العسل على نفسه لأنه كان يشربه عند بعض نسائه ، فقالت الباقيات : نجد منك ريح المعافير ، والمعافير صمغ العرفط ، لأن من النحل ما يكون يرعاه ، فيظهر فيه ريحه ، وكان يكره ريحه ، فحرمه على نفسه ثم كفر .

وحكى الحسن وقتادة ، أنه حرم مارية على نفسه ، لأنه كان خلا بها في منزل حفصة ، فغارت فحرمها ثم كفر ، فدل على وجوب الكفارة في الإماء والطعام ، وكفارة اليمين تجب في الإماء .

والثاني : أن الله تعالى قال : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم فدل بهذا النص على أن التحريم على يمين ، وبما روى ابن عباس عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الحرام يمين تكفر وهذا نص .

ولأن ما أوجب كفارة اليمين في الزوجة والأمة ، كانت يمينا توجب الكفارة في الطعام والمال كالحلف بالله تعالى .

ودليلنا : قول الله تعالى : ياأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك فأنكر الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم ما أحله له ، فدل على أن التحريم لم يقع فبطل به قول من جعله طلاقا وظهارا ، وقوله تعالى : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم دليل على أنه حرم ما أحل الله له ، بيمين حلف بها ، فعوتب في التحريم ، وأمر بالكفارة في اليمين ، ولم يكن التحريم يمينا ، لأن اليمين إنما يكون خبرا عن ماض ووعدا بمستقبل ، فلم يجز أن يكون يمينا ، ويدل على ما قلناه ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : آلى رسول الله من نسائه شهرا ، وحرم جاريته يوما بيمين ، وكفر عن [ ص: 185 ] تحريمه . فبطل بهذا أن يكون التحريم يمينا ، أو يصير مؤليا ، وأخبرت أنه كفر عن تحريم الجارية دون العسل ، ويدل عليه من طريق الاعتبار ، أن كل لفظ عربي عن اسم لله تعالى وصفته لم تنعقد به اليمين ، قياسا على كنايات الطلاق والعتاق وسائر الكلام .

فأما الجواب عن الآية فهو ما قدمناه من الاستدلال بها ، وقد روى الحسن وقتادة والشعبي أنه حرم مارية على نفسه بيمين حلف بها .

وأما حديث ابن عباس عن عمر ، فقد رواه عبد الله بن محرز عن قتادة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وقد ذكر الدارقطني أن ابن محرز ضعيف ، ولم يروه عن قتادة على أنه يحمل قوله : الحرام يمين تكفر ، أي في الحرام كفارة يمين ، وأما القياس بالمعنى في الأصل أنه خالف الله تعالى فانعقدت به اليمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية