الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " وكل مكره ومغلوب على عقله فلا يلحقه الطلاق " .

قال الماوردي : أما المغلوب على عقله بجنون أو مرض فلا يقع طلاقه ولا يصح عقده .

وأما المكره على الطلاق إذا تلفظ به كرها غير مختار لم يقع طلاقه ولا عتقه ولم تصح عقوده ، وسواء كان ذلك مما لا يلحقه الفسخ كالطلاق أو العتق أو كان مما يلحقه الفسخ ، كالنكاح والبيع ، وبه قال مالك وأكثر الفقهاء .

وقال أبو حنيفة : إن كان مما يلحقه الفسخ كالنكاح والبيع لم يصح من المكره ، وإن كان مما لا يلحقه الفسخ كالطلاق والعتق صح من المكره كما يصح من المختار [ ص: 228 ] استدلالا بقول الله تعالى : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ البقرة : 230 ] . ولم يفرق بين مكره ومختار فكان على عمومه . وبرواية علي بن أبي طالب عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه والصبي . فدخل طلاق المكره في عموم الجواز .

وبرواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة .

والمكره لا يخلو أن يكون جادا أو هازلا فوجب أن يقع طلاقه .

ولما روي أن صفوان بن عمران كان نائما مع امرأته في الفراش فجلست على صدره ، ووضعت السكين وقالت : طلقني وإلا ذبحتك فناشدها الله فأبت فطلقها ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك ، فقال : " لا إقالة في الطلاق " .

أي لا رجوع فيه ، فدل على وقوعه مع الإكراه .

ومن القياس : أنه طلاق مكلف مالك ، فوجب أن يكون واقعا كالمختار قال : ولأن كل ما لم يمنع من وقوع الطلاق مع الإرادة لم يمنع من وقوعه مع فقد الإرادة كالهزل ، ولأن ما أوجب تحريم البضع مع الاختيار ، أوجب تحريمه مع الإكراه كالرضاع .

ودليلنا : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه . فاقتضى أن يكون طلاق المكره مرفوعا . فإن قيل : فالاستكراه لم يرفع لأنه قد يوجد ، قيل المراد به حكم الاستكراه ، لا الاستكراه ، كما أن المراد به حكم الخطأ لا وجود الخطأ . على أنه قد روي : عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه . فبان به ما ذكرنا ، فإن قيل فهو محمول على رفع الإثم ، قيل حمله على رفع الحكم أولى لأنه أعم ، لأن ما رفع الحكم قد رفع الإثم ، وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا طلاق في إغلاق .

[ ص: 229 ] قال أبو عبيد : الإغلاق كالإكراه ، يعني أنه كالمغلق عليه اختياره ، فإن قيل المراد به الجنون لأنه معلق الإرادة ففيه جوابان :

أحدهما : أن أهل اللغة أقوم بمعانيها من غيرهم فكان حمله على ما قرره أولى .

والثاني : أنه يحمل على الأمرين فيكون أعم . ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم . قاله خمسة منهم ، لم يظهر مخالف لهم ، منهم عمر روى عنه ابن المنذر ، أن رجلا تدلى بحبل يشتار - أي يجتني عسلا - فأدركته امرأة ، فحلفت لتقطعن الحبل أو ليطلقنها ثلاثا فذكرها الله والإسلام فحلفت لتفعلن أو ليفعلن ، فطلقها ثلاثا فلما خرج أتى عمر بن الخطاب ، فذكر له الذي كان من امرأته إليه ، والذي كان منه إليها ، فقال : ارجع إلى امرأتك فإن هذا ليس بطلاق .

ومنهم علي بن أبي طالب عليه السلام : كان لا يرى طلاق المكره شيئا ، ومنهم عبد الله بن عباس ، قال : ليس على المكره والمضطهد طلاق ، ومنهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير كانا يريان مثل ذلك .

ومن القياس : أنه لفظ حمل عليه بغير حق ، فوجب أن لا يثبت به حكم ، كالإكراه على الإقرار بالطلاق فإن قيل : لا يصح اعتبار الإيقاع بالإقرار ، لأن الإكراه على الرضاع يتعلق به التحريم والإكراه على الإقرار بالرضاع لا يتعلق به تحريم ، والإكراه على الإقرار بالإسلام لا يصح لأن الإقرار خبر به يدخله الصدق والكذب ، وخالف الإيقاع الذي لا يدخله صدق ولا كذب .

فعن ذلك جوابان :

أحدهما : أن إقرار المكره لم يرتفع لاحتمال دخول الصدق ، والكذب فيه ، لأن هذا المعنى من احتمال الصدق والكذب موجود في إقرار المختار ، وطلاقه واقع وإنما المعنى فيه الإكراه ، وهذا المعنى موجود في الإيقاع .

والثاني : هو أن الرضاع فعل لا يراعى فيه القصد ، فاستوى فيه حكم المكره والمختار ، والإقرار قول يراعى فيه القصد ، فافترق فيه حكم المكره والمختار ، ألا ترى أن المجنونة لو أرضعت ثبت به حكم التحريم ، ولو أقرت به لم يثبت .

والمجنون لو أولد أمته صارت أم ولد ، ولو أعتقها لم تعتق ، فافترق حكم الإكراه على الإرضاع ، وحكم الإقرار بالرضاع ، لأن أحدهما فعل والآخر قول . واستوى حكم الإكراه على إيقاع الطلاق وعلى الإقرار ، لأن كليهما قوله ، وأما الإكراه على فعل الإسلام ، فإنما يصح ويثبت فيمن كان حربيا فيدعى بالسيف إلى الإسلام ، لأن إكراهه عليه واجب قد ورد الشرع به ، ولا يصح إكراه الذمي الباذل للجزية ، لأن الشرع قد أقره عليه ، فكان إكراهه عليه ظلما ، فلم يصح .

[ ص: 230 ] والإكراه على الإقرار بالإسلام إنما هو إكراه على التزام أحكامه ، قبل الإقرار من فعل الصلاة وأداء الزكاة . وهذا ظلم فاستوى حكم الإكراه على الإقرار بالإسلام ، والإكراه على فعل الإسلام في حق الذمي لكونهما ظلما فلم يصحا وافترق حكم الإكراه على الإقرار بالإسلام ، والإكراه على الإسلام في حق الحربي ، لأن الإقرار ظلم فلم يصح ، وفعل الإسلام حق فصح ، فإن وجب ما ذكرناه أن يستوي في الطلاق حكم الإقرار والإيقاع ، لأن كل واحد منهما ظلم ، فوجب أن لا يقعا .

وقياس ثان : وهو أن الإكراه معنى يزيل حكم الإقرار بالطلاق ، فوجب أن يزيل حكم إيقاع الطلاق كالجنون والنوم والصغر .

وقياس ثالث : أنه لفظ يتعلق به الفرق بين الزوجين ، فوجب أن لا يصح إذا حمل عليه فيه حق ، أصله الإكراه على كلمة الكفر .

قياس رابع : أنه قول في أحد طرفي النكاح فوجب أن لا يصح مع الإكراه كالنكاح .

وقياس خامس : أن كل بضع لم يملك بلفظ المكره ، لم يحرم بقول المكره ، كالإيماء في البيع والشراء .

فأما الجواب عن الآية فهو أنه قال : " فإن طلقها " ، والمكره عندنا غير مطلق ، ولو صح دخوله في عمومها لكان مخصوصا بما ذكرنا .

وأما الجواب عن قول النبي صلى الله عليه وسلم : كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه والصبي . فمن وجهين :

أحدهما : أنه محمول على حال الاختيار .

والثاني : أن في استثناء الصبي والمعتوه لفقد القصد منهما تنبيه على إلحاق المكره بهما .

وأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم ثلاثة جدهن جد وهزلهن جد ، فهو أننا نقول بموجبه ونجعل الجد والهزل في وقوع الطلاق سواء ، والمكره ليس بجاد ولا هازل ، فخرج عنها كالمجنون ، لأن الجاد قاصد للفظ مريد للفرقة والهازل قاصد للفظ غير مريد للفرقة والمكره غير قاصد للفظ ولا مريد للفرقة .

وأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم : لا إقالة في الطلاق فمن وجهين :

أحدهما : أن الرجل أقر بالطلاق وادعى الإكراه فألزمه إقراره ، ولم تقبل دعواه .

والثاني : أنه يجوز أن يكون رأى من جلده وضعف زوجته ما لا يكون به مكرها فألزمه الطلاق . وأما قياسهم على المختار فالمعنى فيه صحة إقراره ، والمكره لا يصح [ ص: 231 ] إقراره فلم يصح إيقاعه وإن شئت قلت القياس عليهم فقلت فوجب أن يكون إيقاعه بهزله إقراره كالمختار .

وأما قولهم : إن كل ما لم يمنع من وقوع الطلاق مع الإرادة ، لم يمنع وقوعه مع فقد الإرادة فهو أنه ليس المعتبر في وقوع الطلاق ، وجود الإرادة وإنما المعتبر فيه أن يكون من أهل الإرادة ، ثم المعنى في الهازل صحة إقراره .

وأما الجواب عن قياسهم على الرضاع ، فهو أنه ينتقض بالمكره على كلمة الكفر ، ثم المعنى في الرضاع أنه فعل والطلاق قول ، وقد ذكرنا من فرق ما بين الفعل والقول ، بحال المجنونة إذا أرضعت والمجنون إذا طلق ما كفى .

التالي السابق


الخدمات العلمية