فصل : وأما  
السكران  فعلى ضربين :  
أحدهما : أن يسكر بشرب مطرب ( فعلى ضربين ) .  
والثاني : أن يسكر بشرب دواء غير مطرب ، فإن  
سكر بشرب مسكر مطرب  فعلى ضربين :  
أحدهما : أن لا ينسب فيه إلى معصية ، إما لأنه شربه وهو لا يعلم أنه مسكر ، وإما بأن أكره عليه وأوجر الشراب في حلقه ، فهذا في حكم المغلوب على عقله ، ولا طلاق عليه لارتفاع المأثم عنه .      
[ ص: 236 ] والضرب الثاني : أن يكون عاصيا فيه لعلمه بأنه مسكر ، وشربه له مختارا ، فقد اختلف الناس في وقوع طلاقه ، فذهب  
الشافعي   وأبو حنيفة   ومالك   وأكثر الفقهاء إلى وقوع طلاقه .  
وحكي عن  
عثمان بن عفان      - رضي الله عنه -  
ومجاهد   وربيعة   والليث بن سعد   وداود   أن طلاقه لا يقع ، وبه قال من أصحابنا  
المزني   وأبو ثور ،   ومن أصحاب  
أبي حنيفة الطحاوي   والكرخي ،   وحكى  
المزني   في جامعه الكبير عن  
الشافعي   في القديم في  
ظهار السكران  قولين :  
أحدهما : وهو المنصوص عليه في كتبه يقع ، والمشهور من مذهبه .  
والثاني : لا يقع وحكم طلاقه وظهاره في الوقوع والسقوط واحد ، فاختلف أصحابنا في هذا القول الذي تفرد  
المزني   بنقله في القديم ، ولم يساعده غيره من أصحاب القديم ، ولا وجد في شيء من كتبه القديمة هل يصح تخريجه قولا ثانيا  
للشافعي   في القديم ، أن طلاقه وظهاره لا يقع : فذهبت طائفة منهم إلى صحة تخريجه ، وأنه قول ثان  
للشافعي ،   لأن  
المزني   ثقة فيما يرويه ضابطا لما ينقله ويحكيه ، وذهب الأكثرون منهم إلى أنه لا يصح هذا التخريج ، وليس في طلاق السكران إلا قول واحد أنه يقع ، لأن  
المزني   وإن كان ثقة ضابطا ، فأصحاب القديم بمذهبيه فيه أعرف ، ويجوز إن ظهر به  
المزني   أن يكون حكاه عن غيره .  
واستدل من ذهب إلى أن طلاقه غير واقع ، بأنه مفقود الإرادة بعلم ظاهر ، فلم يقع طلاقه كالمكره . ولأنه زائل العقل ، فلم يقع طلاقه كالمجنون ، ولأنه غير مميز فلم يقع طلاقه كالصغير ودليلنا من طريقين :  
أحدهما : ثبوت تكليفه .  
والثاني : وقوع طلاقه .  
فأما ثبوت تكليفه فبقوله تعالى :  
ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون     [ النساء : 143 ] .  
فدلت على تكليفهم من وجهين :  
أحدهما : تسميتهم بالمؤمنين ، وندائهم بالإيمان ، ولا ينادى به إلا لهم .  
والثاني : نهيهم في حال السكر أن يقربوا الصلاة ، ولا ينهى إلا مكلف ، ولأنه إجماع الصحابة ،  لأن  
عمر   شاورهم في حد الخمر ، وقال : أرى الناس قد بالغوا في شربه واستهانوا بحده ، فماذا ترون ؟ فقال  
علي   عليه السلام : إنه إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، فأرى أن يحد حد المفتري ثمانين ، فحده
عمر   وعثمان    [ ص: 237 ] وعلي   ثمانين ،  فكان الدليل منه أن الزيادة على الأربعين علة لافترائه في سكره ، ولو كان غير مكلف لما حد بما أتاه ولا كان مؤاخذا به وفي مؤاخذته به دليل على تكليفه ، فإذا ثبت أنه مكلف ، وجب أن يقع طلاقه كالصاحي .  
وأما الدليل على وقوع طلاقه في الأصل ، فما رواه  
الزهري   عن  
سعيد بن المسيب   ورواه  
عبد الله بن الزبير   أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب   nindex.php?page=showalam&ids=10640خديجة بنت خويلد  تزوجها من أبيها  خويلد   وهو سكران ودخل بها ، فلما جاء الإسلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزوج نشوان ولا يطلق إلا أجزته  وهذا نص .  
ولأنه مؤاخذ بسكره ، فوجب أن يكون مؤاخذا بما حدث عن سكره ، ألا ترى أن من جنى جناية فسرت لما كان مؤاخذا بها ، كان مؤاخذا بسرايتها ، فإن قيل فليس السكر من فعله وإنما هو من فعل الله تعالى فيه ، فكيف صار منسوبا إليه ، ومؤاخذا به ؟ قيل : لأن سببه وهو الشرب من فعله . فصار ما حدث عنه وإن كان من فعل الله تعالى منسوبا إلى فعله ، كما أن سراية الجناية لما حدثت عن فعله ، نسبت إليه وكان مؤاخذا بها ، وإن كان من فعل الله تعالى فيه ، لأن رفع الطلاق تخفيف ورخصة ، وإيقاعه تغليظ وغريمة ، فإذا وقع من الصاحي وليس بعاص ، كان وقوعه من السكران مع المعصية أولى ، لأن السكران ليس يستدل على سكره بعلم ظاهر ، هو معذور فيه ، وإنما يعرف من جهته ، وهو فاسق مردود الخبر وربما تساكر تصنعا ، فلم يجز أن يعدل به عن يقين الحكم السابق ، بالتوهم الطارئ ، ولا يجوز اعتباره بالمكره والمجنون لأمرين :  
أحدهما : أن مع المكره والمجنون علم ظاهر يدل على فقد الإرادة هما فيه معذوران ، بخلاف السكران .  
والثاني : أن المكره والمجنون غير مؤاخذين بالإكراه والجنون ، فلم يؤاخذا بما حدث فيهما ، كما أن من قطع يد سارق فسرت إلى نفسه ، لا يؤاخذه بالسراية ، لأنه غير مؤاخذ بالقطع ، ولو كان متعديا بالقطع لكان مؤاخذا بالسراية ، كما كان مؤاخذا بالقطع ، وخالف الصبي لأنه مكلف ، والصبي غير مكلف ، وإذا صح أن طلاقه واقع ، فقد اختلف أصحابنا في  
علة وقوعه  على ثلاثة أوجه :  
أحدهما وهو قول  
أبي العباس بن سريج      : العلة في وقوع طلاقه أنه متهم فيه لنفسه ، وأنه لا يعلم سكره إلا من جهته ، فعلى هذا يلزمه الطلاق وجميع الأحكام المغلظة والمخففة في الظاهر دون الباطن ، ويكون فيما بينه وبين الله تعالى فيها مدينا .  
[ ص: 238 ] والوجه الثاني : أن العلة في وقوع طلاقه بأن المعصية مغلظة عليه ، فعلى هذا يلزمه كل ما كان مغلظا من الطلاق ، والظهار والعتق والردة والحدود ، ولا يصح منه ما كان تخفيفا كالنكاح والرجعة ، وقبول الهبات والوصايا .  
والوجه الثالث وهو قول الجمهور : أن العلة في وقوع طلاقه إسقاط حكم سكره بتكليفه ، وأنه كالصاحي فعلى هذا يصح منه جميع ما كان تغليظا وتخفيفا ، ظاهرا وباطنا ، قال  
أبو حامد المروزي      : كنت أذهب إلى الوجه الثاني حتى وجدت نصا  
للشافعي   أنه يصح رجعته وإسلامه من الردة فرجعت إلى هذا الوجه .