الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي ، رضي الله عنه : " وإن تكلم ، أو سلم عامدا أو أحدث فيما بين إحرامه وبين سلامه استأنف ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : تحليلها التسليم "

قال الماوردي : قد ذكرنا حكم المتكلم في صلاته ناسيا فأما المتكلم عامدا فيها فصلاته باطلة بكل حال سواء كان مما يصلح للصلاة أم لا ، وقال مالك : عمد الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها كإعلام الإمام بسهوه ، وما بقي من صلاته وعمده لغير مصلحة الصلاة يبطلها . وقال الأوزاعي : إن كان كلامه لمصلحة ما لم تبطل صلاته سواء لمصلحة صلاته أم لا ، كإرشاد ضال هالك ، أو تحذير ضرير من بئر ، أو سبع استدلالا بقصة ذي اليدين ، وكلامه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجواب رسول الله صلى الله عليه وسلم له ، واستثباته أبا بكر ، وعمر ، رضي الله عنهما ، وجوابهما له ، وقوله لبلال : " أقم الصلاة " ، وكل ذلك كلام عمد يصلح الصلاة ، ثم بنى صلى الله عليه وسلم على صلاته مع جميع أصحابه ، قالوا : ولأنا قد أجمعنا على إباحة عمد الكلام في الصلاة سواء أصلحها أم لا ، ثم نسخ منه ما لا يصلحها إجماعا ، وكان الباقي على إباحته ، فمن أبطل الصلاة فقد أثبت نسخه ، وذلك لا يكون إلا بدلالة قاطعة

ودليلنا حديث ابن مسعود ، وقوله صلى الله عليه وسلم وقد أحدث أن لا تكلموا في الصلاة ، وهذا حظر عام في جميع الكلام

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر ، رضي الله عنه ، على الصلاة ومر ليصلح بين بني عمرو بن عوف ، فعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، رضي الله عنه ، في الصلاة ، فصفق الناس إليه حتى التفت فرأى رسول الله ، فقال : ما منعك أن تقف في مقامك فقال : ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال صلى الله عليه وسلم : " من نابه شيء في صلاته فليسبح ، فإنما التسبيح للرجال ، والتصفيق للنساء ففي الخبر دليلان :

أحدهما : أن الصحابة صفقت إلى أبي بكر ، رضي الله عنه ، ولم يتكلم

[ ص: 183 ] والثاني : قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا ناب أحدكم شيء في صلاته فليسبح " . فجعل صلى الله عليه وسلم التنبيه بالتسبيح دون الكلام

وهذا الخبر عمدة المسألة ، " ولأنه خطاب آدمي في الصلاة على وجه العمد فوجب أن يبطلها قياسا على ما لا يصلحها

وأما استدلالهم بحديث ذي اليدين ، فقد تقدم الجواب عنه مع أبي حنيفة ، وقلنا : إن كلهم ناس لكلامه غير عامد لاعتقادهم الخروج من الصلاة ، فإن قيل : فأنتم تقولون إن صلاة المأموم باطلة إذا قال لإمامه قد نسيت صلاتك أو قصرت كقول ذي اليدين ، قيل : لاستقراب حكم الصلاة ، وعدم النسخ الذي كان مجوزا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما قولهم إن النسخ لا يكون بأمر محتمل ، وإنما يكون بدلالة قاطعة فالجواب عنه من وجهين :

أحدهما : أن هذا ليس بنسخ ، لأن النسخ هو : رفع ما ثبت بالشرع إما قولا أو فعلا ، وليس جواز الكلام في الصلاة شرعا ، وإنما هو استصحاب للإباحة ، فجاز رفعه بأمر محتمل كما أن شرب النبيذ مباح لا من طريق الشرع ، ولكن استصحاب حال الإباحة فجاز رفعه لمحتمل

والجواب الثاني : أن هذا نسخ ، لعمري ، ولكن إن لم يقع النسخ لمحتمل وإنما علم كونه منسوخا بأمر محتمل ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا رفع فارفعوا وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعين " . ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه جالسا في مرضه ، وصلى من خلفه قياما ، فعلم بهذا الفعل تقديم النسخ

التالي السابق


الخدمات العلمية