الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا تقرر ما وصفنا من إيلائه بتعيين العتق الواجب عن ظهاره ، وجب أن يوقف أربعة أشهر ، فإذا طولب بالفيئة أو الطلاق ، فإن فاء ووطئ فقد لزمه النذر ، والنذر ضربان : نذر طاعة يقصد به القربى ، ونذر لجاج خرج مخرج اليمين ، فأما نذر الطاعة المقصود به القربى فكقوله إن شفى الله مريضي فلله علي عتق عبدي هذا فإذا شفى الله مريضه لزمه عتق عبده ، ولم يكن مخيرا بينه وبين غيره ، وأما نذر اللجاج الخارج مخرج الأيمان فهو ما قصد به منع نفسه من شيء أو إلزام نفسه فعل شيء كقوله : إن كلمت زيدا فلله علي عتق عبدي هذا أو إن لم أدخل الدار فلله علي عتق رقبة ، فإذا كلم زيدا أو لم يدخل الدار وجب النذر وكان مخيرا فيه بين التزام ما نذره من العتق اعتبارا بالنذور وبين كفارة يمين اعتبارا بالأيمان ، ونذره في هذا الموضع نذر لجاج خرج مخرج اليمين فكان فيه مخيرا بين عتق عبده الذي عينه وبين العدول عنه إلى كفارة يمين ، فإن عدل إلى الكفارة سقط بها حكم إيلائه وكان مخيرا في العتق عن ظهاره بين عتق ذلك العبد وبين عتق غيره كحاله قبل نذره : لأن النذر قد خرج منه بالتكفير فإن أعتق ذلك العبد عن ظهاره أجزأه وجها واحدا : لأنه عتق اختص بظهاره [ ص: 363 ] وحده وإن لم يكفر في إيلائه وأعتق ذلك العبد فيه عن ظهاره خرج بعتقه عن حكم الإيلاء ، وفي إجزاء عتقه عن ظهاره وجهان على ما مضى :

أحدهما : وهو قول أبي إسحاق المروزي يجزئه عن الظهار لتعيين عتقه بعد وجود الظهار .

والوجه الثاني : لا يجزيه ذلك عن ظهاره ، لأنه عتق مشترك بين ظهاره وبين إيلائه ، فهذا حكم إيلائه إن فاء فيه ، فأما إن طلق فقد خرج بالطلاق من حكم الإيلاء وكان مخيرا في الظهار بين عتق ذلك العبد وبين عتق غيره ، لأن النذر لم يلزم لعدم الوطء فكان في الظهار على حكم الأصل في عتق أي عبد شاء ، فإن أعتق ذلك العبد أجزأه وجها واحدا كما يجزيه عتق غيره : لأنه لم يخرج بعتقه من حق الإيلاء ، فعلى هذا لو راجع في العدة بعد طلاقه نظر ، فإن كانت رجعته قبل العتق عن ظهاره عاد الإيلاء ، واستؤنف له الوقف كالابتداء ، وإن كانت رجعته بعد العتق عن ظهاره لم يخل من أن يكون قد أعتق ذلك العبد أو أعتق غيره فإن كان قد أعتق غيره عاد الإيلاء بعد رجعته لبقاء العبد الذي يكون مخيرا بين عتقه وكفارته ، فإن كان قد أعتق ذلك العبد ففي عود الإيلاء وجهان :

أحدهما : لا يعود وهو الأظهر لفوات العبد المنذور في الإيلاء ، فعلى هذا لو كان قد باع العبد في مدة الوقف سقط حكم الإيلاء .

والوجه الثاني : أن حكم الإيلاء يعود لأن حكم نذره يتعلق بالكفارة كتعلقه بعتقه ، والكفارة مقدور عليها فقامت مقام وجوده ويكون وجوده موجبا للتخيير بين عتقه وبين التكفير وفوات عتقه مسقطا للتخيير موجبا للتكفير ، فعلى هذا لو باع العبد في مدة الوقف أو مات لم يسقط الإيلاء والله تعالى أعلم .

مسألة قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو آلى ثم قال لأخرى قد أشركتك معها في الإيلاء لم تكن شريكتها لأن اليمين لزمته للأولى واليمين لا يشترك فيها " .

قال الماوردي : اعلم أن الإيلاء على ضربين :

أحدهما : أن يكون معقودا على اليمين بالله تعالى .

والثاني : أن يكون معقودا بكل يمين لازمة ، فإن عقدها بالله تعالى فقال لإحدى زوجتيه ، والله لا أصبتك ثم قال للأخرى وأنت شريكتها يعني في الإيلاء كان موليا من الأولى ، ولم يكن موليا من الثانية ، ولو طلق إحداهما وقال للأخرى وأنت شريكتها يعني في الطلاق كان مطلقا لهما وهكذا لو ظاهر من إحداهما ثم قال للأخرى وأنت شريكتها يعني في الظهار كان مظاهرا منهما فإن قيل فلم لم تكن الثانية شريكة الأولى [ ص: 364 ] في الإيلاء إذا أراده وكانت شريكة لها في الطلاق والظهار إذا أراده ؟ قيل : لأن الإيلاء يمين بالله تعالى لا تنعقد بالكناية والطلاق والظهار يقعان وينعقدان بالكناية ألا تراه لو قال إن حلف زيد بالله تعالى فأنا حالف به ، لم يصر حالفا إذا حلف زيد ولو قال إن طلق زيد فامرأتي طالق لزمه الطلاق بطلاق زيد ، والفرق بينهما في دخول الكناية في الطلاق والظهار ، وانتفاء الكناية عن اليمين من وجهين :

أحدهما : أن اليمين بالله تعالى حرمة التعظيم فلم يجز لعظم حرمته أن يكنى عنه ، وليس للطلاق والظهار حرمة تعظيم فجازت الكناية عنهما .

والثاني : أنه لما لم تصح النيابة في اليمين تغليظا لم تصح فيها الكناية ، ولما صحت النيابة في الطلاق والظهار تخفيفا صحت فيهما الكناية ، والفرق بينهما في صحة النيابة في الطلاق والظهار ، وانتفاء النيابة عن اليمين من وجهين :

أحدهما : أن مقصود اليمين التعظيم فلم تصح فيه النيابة ، ومقصود الطلاق والظهار التحريم فصح فيه النيابة .

والثاني : أن تأثير اليمين في الحالف ، فلم يجز استنابة غيره ، وتأثير الطلاق والظهار في غيره فجاز فيهما استنابة غيره والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية