الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 470 ] باب ما يجزئ من الرقاب وما لا يجزئ

مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " لا يجزئ في رقبة واجبة رقبة تشترى بشرط أن تعتق ؛ لأن ذلك يضع من ثمنها " .

قال الماوردي : في البيع بشرط العتق ثلاثة أقاويل ذكرناها في كتاب البيوع .

أحدهما : وهو قياس مذهبه، وبه قال أبو حنيفة ؛ أن البيع باطل، وإن أعتقه لم ينفذ عتقه، ويخالف أبو حنيفة في نفوذ عتقه مع بطلان بيعه .

والقول الثاني : أن البيع جائز والشرط لازم، وهو المنصوص عليه في أكثر المواضع، ويؤخذ بعتقه جزاء بالشرط ولا يجزيه عن الكفارة لاستحقاقه بغيرها .

والقول الثالث : حكاه أبو ثور ، وبه قال ابن أبي ليلى ، أن البيع جائز والشرط باطل، ولا يجبر على عتقه، لكن إن امتنع من عتقه كان للبائع الخيار في فسخ البيع ، فعلى هذا لو أعتقه عن كفارته ففي إجزائه وجهان :

أحدهما : يجزئ لأنه لا يستحق عتقه بغير الكفارة، فأجزأ عن العتق كغيره من العبيد .

والوجه الثاني : لا يجزئ وهو الأصح لأمرين :

أحدهما : أن الاشتراط في عتقه ثابت في فسخ البائع إن لم يعتق فصار مستحقا .

والثاني : أن الشرط قل أو كثر من ثمنه فصار نقصا، وقد ذكرنا توجيه الأقاويل في كتاب البيوع .

مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولا يجزئ فيها مكاتب أدى من نجومه شيئا أو لم يؤده لأنه ممنوع من بيعه " .

قال الماوردي : وهذا صحيح . عتق المكاتب واقع ولا يجزئ عن الكفارة، وبه قال مالك والأوزاعي . وقال أبو حنيفة وصاحباه يجزئ عتقه عن الكفارة إن لم يؤد شيئا من نجومه، ولا يجزئ إن أداه استدلالا بقول الله تعالى فتحرير رقبة واسم الرقبة ينطلق على اسم المكاتب لقوله تعالى وفي الرقاب [ التوبة : 60 ] وهم [ ص: 471 ] المكاتبون، فصار داخلا في العموم فأجزأ، ولما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال المكاتب عبد ما بقي عليه درهم وإذا كان عبدا أجزأ عتقه كسائر العبيد ، قالوا : ولأنها رقبة سليمة لم يرجع إليه بشيء من ثمنها، فوجب أن يجزئ عتقها عن كفارته كالعبد القن، قالوا : ولأنه عقد يلحقه الفسخ فوجب أن لا يمنع من الإجزاء عن الكفارة كالمبيع بشرط الخيار ، قالوا : ولأنه عقد عتق بصفة فوجب أن لا يمنع من تعجيل عتقه في الكفارة كالعتق بصفة، قالوا : ولأنه عقد لاستيفاء حق مع بقاء الملك فوجب أن لا يمنع من العتق في الكفارة كالمرهون، قالوا : ولأن عتقه يوجب فسخ الكتابة قبل العتق فصار العتق واقعا بعد الفسخ وهذا لا يمنع من الإجزاء في الكفارة كالفسخ بالعجز .

ودليلنا : هو أنه ممنوع من بيعه بعقد الكتابة فوجب أن لا يجزئ عتقه عن الكفارة، كالمؤدي بعض نجومه .

فإن قيل : المعنى في المؤدي بعض نجومه أنه قد وصل إلى بعض بدل العتق فلذلك لم يجزه، وليس كذلك فيمن لم يؤده، قيل : ليس لهذا المعنى تأثير في المنع من الإجزاء لأنه لو أدى بعض نجومه ثم أعتقه بعد فسخ الكتابة أجزأ فلا يكون لعدم هذا المعنى تأثير في الإجزاء لأن العقود المانعة من إجزاء عتقه بعد الأداء هي مانعة من إجزاء عتقه قبل الأداء كالبيع والصلح ، ولأنه سبب حرية يمنع من جواز البيع فوجب أن يمنع من عتق الكفارة كاستيلاد أم الولد . فإن قيل : فالمعنى في أم الولد استقرار سبب الحرية فيها وليس سبب الحرية في المكاتب مستقرا، قيل : اعتبار هذا المعنى يفسد بالمؤدي بعض نجومه ؛ لأن سبب حريته غير مستقر ولا يجزئ عن الكفارة ، ولأنه عقد منعه من بيعه، فوجب أن يمنع من عتقه عن كفارته كالبيع .

فإن قيل : المعنى في البيع أن عتقه لا يقع، والمكاتب عتقه واقع، قيل : ليس اختلافهما في وقوع العتق مانعا من استوائهما في عدم الإجزاء عن الكفارة كالمؤدي بعض نجومه ، ولأن من لم يجز تكفيره بولد المكاتب لم يجز تكفيره بالمكاتب كالورثة ، ولأن من لم يجز أن يكفر به الورثة لم يجز أن يكفر به الموروث كذلك المكاتب ، ولأنه ممنوع من التصرف في مكاتبه، كما يمنع من التصرف في عبد غيره، فوجب أن يستويا في المنع من الإجزاء بهما عن كفارته ، ولأن سائر أحكام المكاتب متساوية قبل الأداء وبعده كالشهادة والولاية والنسب فكذلك في العتق عن الكفارة ، ولأن عتق المكاتب إبراء، وإبراؤه عتق، وعتقه بالإبراء لا يجزئ عن الكفارة فكذلك إبراؤه بالعتق لا يجزئ عن الكفارة ، ولأن كل من استحق شيئا بسبب إلى أجل كان تعجيله معتبرا باستحقاقه لذلك السبب ؛ كتعجيل الدين المؤجل فصار تعجيل العتق قبل أداء الكتابة مقيدا لاستحقاقه بالكتابة وذلك مانع من إجزائه عن الكفارة لو أعتق بالأداء .

[ ص: 472 ] وأما الجواب عن الآية : فهو المنع من إطلاق اسم الرقبة على المكاتب بدليل أنه لو حلف لا يملك رقبة لم يحنث بملك المكاتب، ولو أطلق عليه اسم الرقبة لكان مخصوصا بما ذكرنا .

وأما الجواب عن قوله المكاتب عبد ما بقي عليه درهم وهو أن المراد به أن لا يعتق منه بقدر أدائه لا أنه كالعبد في جميع أحكامه . وأما قياسه على العبد فالمعنى فيه جواز بيعه، وأما قياسه على البيع بشرط الخيار لعلة أنه عقد يلحقه الفسخ فمنتقض بمن أدى بعض نجومه، ثم المعنى بشرط الخيار جواز تصرف البائع فيه بغير العتق . وأما قياسه على العتق بصفة فالمعنى فيه جواز تصرفه فيه بالمبيع وغيره وتملك أكسابه .

وأما قياسه على المرهون، فللشافعي رضي الله عنه في عتقه عن كفارته ثلاثة أقاويل :

أحدها : أنه لا ينفذ عتقه معسرا كان أو موسرا .

والقول الثاني : ينفذ موسرا كان أو معسرا .

والثالث : ينفذ عتقه مع يساره ولا ينفذ مع إعساره فإن منع من نفوذ عتقه بطل الاستدلال به ، وإن قيل بنفوذ عتقه كان المعنى فيه بقاؤه على ملكه، ويملك كسبه بخلاف المكاتب ، ولأن المرهون يستوي حكم عتقه بعد أداء بعض الحق وقبله، فكذلك يجب أن يستوي عتق المكاتب بعد أداء بعض النجوم وقبله .

وأما قولهم إن عتقه موجب لتقديم الفسخ فعنه جوابان :

أحدهما : أن عتقه ( إبراء ) وليس بفسخ فلم يسلم الاستدلال .

والثاني : أنه لو كان فسخا لاستوى حكمه قبل الأداء وبعده .

التالي السابق


الخدمات العلمية