الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي - رضي الله عنه - : " وقال قائل : كيف لاعنت بينه وبين منكوحة نكاحا فاسدا بولد والله يقول : والذين يرمون أزواجهم فقلت له : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : الولد للفراش وللعاهر الحجر فلم يختلف المسلمون أنه مالك الإصابة بالنكاح الصحيح أو ملك اليمين ، قال : نعم ، هذا الفراش . قلت : والزنا لا يلحق به النسب ولا يكون به مهر ولا يدرأ فيه حد ؟ قال نعم . قلت : فإذا حدثت نازلة ليست بالفراش الصحيح ولا الزنا الصريح وهو النكاح الفاسد ، أليس سبيلها أن نقيسها بأقرب الأشياء بها شبها ؟ قال : نعم . قلت : فقد أشبه الولد عن وطء بشبهة الولد عن نكاح صحيح في إثبات الولد وإلزام المهر وإيجاب العدة ، فكذلك يشتبهان في النفي باللعان ، وقال بعض الناس : لا يلاعن إلا حران مسلمان ليس واحد منهما محدودا في قذف ، وترك ظاهر القرآن واعتل بأن اللعان شهادة وإنما هو يمين ، ولو كان شهادة ما جاز أن يشهد أحد لنفسه ولكانت المرأة على النصف من شهادة الرجل ولا كان على شاهد يمين ولما جاز التعان الفاسقين ؛ لأن شهادتهما لا تجوز ، فإن قيل : قد يتوبان فيجوزان . قيل : فكذلك العبدان الصالحان قد يعتقان فيجوزان مكانهما ، والفاسقان لو تابا لم يقبلا إلا بعد طول مدة يختبران فيها فلزمهم أن يجيزوا لعان الأعميين النحيفين ؛ لأن شهادتهما عندهم لا تجوز أبدا كما لا تجوز شهادة المحدودين " .

قال الماوردي : وهذا كما قاله ، يجوز أن يلاعن من المنكوحة نكاحا فاسدا والموطوءة بشبهة إذا أراد أن ينفي بلعانه نسبا ، ولا يجوز أن يلاعن بينهما إن لم ينف نسبا .

[ ص: 42 ] وقال أبو حنيفة : لا يجوز أن يلاعن إلا في نكاح صحيح يقع فيه طلاقه ويصح فيه ظهاره ، ولا يلاعن في نكاح فاسد ، ولا في موطوءة بشبهة وإن كانت ذات نسب يلحقه ؛ استدلالا بقوله تعالى : والذين يرمون أزواجهم وليست هذه زوجته ، ولأنه قذف من غير زوج فلم يجز فيه اللعان كالأجنبي ، ولأن اللعان موضوع للفرقة فلم يصح في النكاح الفاسد كالطلاق ، ولأن من انتفى عنها أحكام النكاح من الطلاق والظهار ، والإيلاء انتفى عنها أحكام اللعان كالأجنبية ، وكغير ذات الولد .

ودليلنا قوله تعالى : والذين يرمون أزواجهم ، وهذه في حكم الأزواج في درء الحد ، ووجوب المهر ولحوق النسب ، فاقتضى أن تكون مثلهن في جواز اللعان ، ولأنها ذات فراش لا يقدر على نفي نسبه بغير اللعان ، فجاز له نفيه باللعان كالزوجة ، وخالفت الأمة التي يقدر على نفي ولدها بالاستبراء ، ولأن لحوق النسب في النكاح الصحيح أقوى ؛ لأنه يلحق بالعقد ، ولحوقه في النكاح الفاسد أضعف ؛ لأنه لا يلحق إلا بالإصابة ، فلما جاز أن ينفي باللعان - أقوى السببين - كان أن ينفي أضعفهما أولى ؛ ولأن المستفاد باللعان شيئان : رفع الفراش ونفي النسب ، فلما جاز أن ينفرد برفع الفراش جاز أن ينفرد بنفي النسب ؛ لأن ما قدر على رفع شيئين قدر على رفع أحدهما ، ولأن أصول الشرع مستقرة على أن أحكام العقود الفاسدة معتبرة بأحكامها في الصحة ، فلما جاز نفي النسب في صحيح المناكح كان نفيه في فاسدها أولى .

فأما الجواب عن الآية فهو ما استدللنا به منها .

وأما الجواب عن قياسهم على الأجنبي بأنه قذف من غير زوج : فهو أنه في حكم الأزواج في لحوق النسب ، وإن لم يكن زوجا . فلذلك خالف فيه الأجنبي لاختصاصه بنسب يضطر فيه إلى نفيه بلعان ، وأما قياسهم على الطلاق ؛ لأنه موضوع للفرقة ، فالجواب عنه من وجهين :

أحدهما : أن الطلاق يملك بالعقد ، فلم يثبت إلا في صحيحه دون فاسده ، واللعان يملك بحدوث الزنا ، فجاز أن يملك به في صحيح العقد وفاسده .

والثاني : أن الطلاق مختص بالفرقة ، والنكاح الفاسد لا يحتاج فيه إلى وقوع الفرقة ، واللعان موضوع لنفي المعرة ، ووقوع الفرقة ، ونفي لحوق النسب ، فصح فيه اللعان لبقاء سببه ، ولهذا المعنى منعناه أن يلاعن من غير ذات ولد النسب لزوال أسبابه كلها .

التالي السابق


الخدمات العلمية