الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 44 ] باب أين يكون اللعان

مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه - : " روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لاعن بين الزوجين على المنبر قال : فإذا لاعن الحاكم بينهما في مكة فبين المقام والبيت أو بالمدينة فعلى المنبر أو ببيت ففي مسجده وكذا كل بلد " .

قال الماوردي : أما اللعان فلا يصح إلا بحكم حاكم ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لاعن بين عويمر العجلاني وامرأته وبين هلال بن أمية وبين زوجته ، ولم يكن في أيامه لعان غير هذين - فتولاه بينهما ، ولم يرده إليهما ولأن اللعان يمين عندنا - وشهادة عند أبي حنيفة ، وأيهما كان فلا يثبت به حق إلا بحكم ، فإذا ثبت اختصاصه بحكم الحاكم ، فاللعان موضوع للزجر حتى لا يقدم المتلاعنان على دعوى كذب وارتكاب محظور ، فوجب تغليظه بما يزجر عنه ويمنع منه ، وتغليظه يكون بأربعة أشياء : بالتكرار ، وبالمكان ، وبالزمان ، وبالجماعة .

فأما التكرار : فهو إعادة لفظه بالشهادة أربع مرات يقول فيها : أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا ، ويلعن نفسه في الخامسة إن كان من الكاذبين ، وتكرر الزوجة شهادتها بالله إنه من الكاذبين أربع مرات ، وتأتي في الخامسة بغضب الله عليها إن كان من الصادقين ، وهذا مأخوذ من نص القرآن في قوله : فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين [ النور : 6 ] .

وتكرار هذا العدد مستحق وشرط في صحة اللعان ، فإن ترك بعضه وإن قل لم يصح اللعان ولم يتم ، ولم يتعلق به حكم ، وقال أبو حنيفة : إن ترك أقله جاز ، وإن ترك أكثره لم يجز ، والكلام عليه يأتي . وأما تغليظه بالمكان والزمان والجماعة فهو مشروع يؤمر به المتلاعنان ، وقال أبو حنيفة : ليس بمشروع ، ولا يستحب ونحن ندل على كل واحد منهما بما يدل على أنه مشروع ، فأما الدليل على تغليظه بالمكان واختصاصه بأشرف البقاع التي يتوقى فيها الإقدام على الفجور ، فرواية ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لاعن بين الزوجين على المنبر فدل اختصاصه بالمنبر على تغليظه به لشرفه ، ولعظم العقوبة في الإقدام على المعاصي فيه .

[ ص: 45 ]

وروى جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من حلف يمينا فاجرة على منبري هذا ، ولو على سواك من أراك فليتبوأ مقعده من النار ومر عبد الرحمن بن عوف بقوم يحلفون رجلا بين البيت والمقام فقال : أفي دم ؟ قيل : لا . قال : أفعلى عظيم من المال ؟ قيل : لا . قال : لقد خشيت أن يتهاون الناس بهذا المكان ، وإذا تغلظت به الأيمان فأولى أن تغلظ به في اللعان .

أما تغليظه بالزمان فهو بعد العصر ، وقيل : إنه الوقت الذي ترفع فيه الأعمال لقوله تعالى : تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله [ المائدة : 106 ] قيل : إنه أراد بها صلاة العصر ، وروى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يكلمهم ؛ رجل بايع إماما ثم خانه ، ورجل حلف بعد العصر يمينا فاجرة ليقتطع بها مال امرئ مسلم ، ورجل فضل عنه ماء بالفلاة فلم يدفعه إلى أخيه .

وأما تغليظه بالجماعة فهو أن يشهد جماعة أقلهم أربعة ؛ لقوله تعالى : وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين [ النور : 2 ] ، والعذاب هو الحد ، فكذلك اللعان لتعلقه به ؛ ولأن اللعان رواه أحداث الصحابة ، كابن عباس وابن عمر وسهل بن سعد الساعدي ، ولا يحضر من الأحداث في مجلس الحكم والقضاء إلا مع أضعافهم من ذوي الأسنان ، وليكون اجتماع الناس فيه أزجر وأردع وليكونوا حجة إن تناكر المتلاعنان .

التالي السابق


الخدمات العلمية