الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 212 ] باب سجود السهو وسجود الشكر

قال الشافعي ، رضي الله عنه : " ومن شك في صلاته فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا ؟ فعليه أن يبني على ما استيقن ، وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " .

قال الماوردي : وهذا كما قال إذا أحرم بالصلاة ثم شك في ركعاتها فلم يدر أركعة صلى ، أو ركعتين بنى على اليقين وحسبها ركعة ، ولو كان الشك بين ركعتين أو ثلاث بنى على ركعتين ، ولو كان الشك بين ثلاث أو أربع بنى على ثلاث وهو اليقين ، وسواء كان ذلك أول شكه ، أو كان يعتاده ، وبه قال من الصحابة علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، رضي الله عنهما ، ومن الفقهاء مالك ، والأوزاعي ، وسفيان الثوري .

وقال أبو حنيفة : إن كان ذلك أول شكه أو كان يشك في أقل أوقاته فصلاته باطلة ، وإن كان شاكا ويعتاده الشك كثيرا تحرى في صلاته واجتهد ، وعمل على غالب ظنه بالاجتهاد ، فإن أشكل عليه بنى على اليقين حينئذ واستدل لبطلان صلاته بأول شكه بقوله صلى الله عليه وسلم : لا غرار في الصلاة قال : ومعناه : لا شك فيها فدل على بطلانها بحدوث الشك فيها ، واستدل في جواز التحري فيمن اعتاده الشك برواية عبد الله بن مسعود ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا ؟ فليتحر أقرب ذلك إلى الصواب .

وبما روي عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا وكان أكثر ظنه أنه صلى أربعا ، قعد وتشهد ، وسجد سجدتين .

قال : ولأنه لما جاز التحري في القبلتين ، والثوبين ، والإناءين ، والوقتين ، وكل ذلك من واجبات الصلاة جاز التحري في إعداد ركعاتها ، لأنه أمر مشتبه قد جعل له طريق إلى التخلص منه ، وهذا خطأ .

والدلالة عليه رواية زيد بن أسلم ، عن عطاء ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا ، فليلغ الشك ، وليبن على اليقين ويسجد سجدتي السهو وهو جالس .

[ ص: 213 ] وروي أيضا : فليبن على ما استيقن ويسجد سجدتي السهو قبل السلام .

وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا فليتم ركعة ، وليقعد ويتشهد ، ويسجد سجدتي السهو ، فإن كانت خمسا شفعتها السجدتان ، وإن كانت أربعا كانت السجدتان ترغيما للشيطان .

وروى عبد الرحمن بن عوف ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا شك أحدكم بين واحدة واثنتين بنى على واحدة ، وإن شك بين اثنتين وثلاث بنى على اثنتين ، وإن شك بين ثلاث وأربع بنى على ثلاث ، فإن الزيادة في الصلاة جميعا خير من النقصان .

قال ابن المنذر : وأصح هذه الأحاديث الثلاثة حديث أبي سعيد الخدري ، ولأنها صلاة وجب عليه فعلها فوجب أنه لا يجوز له التحري في أدائها .

أصله إذا ترك صلاة من خمس صلوات لا يعرفها ، ولأن أركان العبادات المفروضة لا تسقط بالتحري كأركان الحج والوضوء ، ولأن كل ما شرط اليقين في أصله شرط اليقين في بعضه ، كالطهارة ، والطلاق ، ولأن كل ما لم يؤد من الطهارة بالتحري لم يؤد من الصلاة بالتحري كأصل العبادة ، وأما الدليل على أن الصلاة لا تفسد بالشك أول مرة مع ما تقدم من الأحاديث أنه شك طرأ في عدد ما صلى فلم تفسد به الصلاة كالمعتاد الشك ، ولأن ما يؤثر في الصلاة فحكم الابتداء والعادة فيه على سواء كالحدث طردا ، والعمل اليسير عكسا ، ولأن ما لا يبطل كثيره الصلاة لا يبطل قليله الصلاة كالتسبيح .

فأما قوله صلى الله عليه وسلم : لا غرار في الصلاة فمعناه : لا نقصان فيها وهو إذا بنى على اليقين فقد أزال النقصان منها .

وأما قوله صلى الله عليه وسلم : " فليتحر أقرب ذلك إلى الصواب " .

فالجواب عنه : أن تحري الصواب يبين له يقين الشك ، أو يبني على اليقين مع بقاء الشك .

فأما الحديث الآخر إن صح فكان معارضا بما رويناه فروايتنا أولى من وجهين :

أحدهما : كثرة الرواة ، والبناء على الاحتياط .

والثاني : أنه يأمن بهذا النقصان ويخاف الزيادة ، وروايتهم تتردد بين النقصان والزيادة ، فكانت روايتنا أولى لقوله صلى الله عليه وسلم : " فإن الزيادة في الصلاة خير من النقصان " .

[ ص: 214 ] وأما ما ذكر من جواز التحري في القبلة والإناءين والثوبين فيفارق أفعال الصلاة من وجهين :

أحدهما : أن الرجوع في هذه الأشياء إلى اليقين متعذر ، وفي أفعال الصلوات غير متعذر ، فجاز التحري فيما تعذر اليقين فيه ولم يجز فيما لم يتعذر اليقين فيه .

والثاني : أن لهذه الأشياء دلائل وعلامات يرجع إليها في التحري ، والاجتهاد ، وليس لما يقضى من أفعال الصلاة دلالة يرجع إليها في التحري فافترقا من هذين الوجهين .

التالي السابق


الخدمات العلمية