الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " ولو قال : زنيت قبل أن أتزوجك حد ولا لعان ؛ لأني أنظر إلى يوم تكلم به ويوم توقعه " .

قال الماوردي : وقد ذكرنا أن من قذف زوجته بزنا كان منها قبل أن يتزوجها أنه يحد ولا يلاعن اعتبارا بوقت الزنا .

وقال أبو حنيفة : يلاعن اعتبارا بوقت القذف وتقدم من الحجاج عليه ما أغنى ، فإن قيل : فهلا لاعن من القذف بالزنا المتقدم قبل نكاحه ؟ لأنها قد تحبل منه فيلحقه الولد ، فصارت الضرورة داعية إلى قذفها ولعانه لينتفي عنه نسب الزنا ، قيل : قد كان يمكن إطلاق القذف من غير إضافة إلى زمان معين فيجوز له أن يلاعن ، وعلى أنه لو لاعن من هذا القذف وليست حاملا لم ينتف عنه نسب ولد تضعه بعد لعانه ، فإن ولدت بعد هذا القذف ولدا ، نظر زمان ولادته ، فإن كان لأقل من ستة أشهر من وقت نكاحه فهو منفي عنه بغير لعان لعلمنا بتقدم علوقه على نكاحه ، وإن ولدته بعد نكاحه لستة أشهر فصاعدا فهو لاحق به بحكم الفراش ، واختلف أصحابنا حينئذ ، هل له أن يلتعن لنفيه بذاك القذف المتقدم الذي نسب الزنا فيه إلى ما قبل نكاحه أم لا ؟ على وجهين :

[ ص: 113 ] أحدهما : وهو قول أبي إسحاق المروزي : أنه لا يجوز أن يلتعن به إلا أن يستأنف قذفا مطلقا ؛ لأنه كان في القذف الأول في حكم الأجانب بمنعه من الالتعان فيه ، فصار كما لو قذفها ثم تزوجها لم يكن له أن يلتعن منه سواء وضعت الولد أو لم تضع ، فعلى هذا إن لم يحد قذفا مطلقا ، حد للقذف الأول ولحق به الولد ولم يكن له أن ينفيه ، وإن جدد قذفا مطلقا ، حد للقذف الأول ولاعن بالقذف الثاني لنفي الولد ، ولم يسقط حد القذف الأول باللعان في القذف الثاني لاختلافهما في الحكم .

والوجه الثاني : وهو قول أبي علي بن أبي هريرة : يجوز أن يلتعن منه إذا ولدت ، ولم يجز أن يلتعن لو لم تلد ؛ لأن الضرورة تدعوه إلى الالتعان مع الولادة ولا تدعوه مع عدمها ؛ ولأن يصدق في إضافة القذف إلى ما قبل نكاحه أولى من أن يستأنف قذفا مطلقا يتجوز في إرساله ، فعلى هذا إذا التعن مقتصرا على القذف الأول ، أجزأه وانتفى به الولد وسقط به الحد ، ولو حد بعد القذف الأول قذفا ثانيا نظر فيه ، فإن أضافه إلى زمان نكاحه فهو غير الزنا الأول ، فعلى هذا يلاعن من القذف الثاني وينفي به الولد ولا يسقط به حد القذف الأول لتميزه عن نفي الولد ، فصار كوجوبه مع عدم الولد والله أعلم .

قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو قذفها ثم تزوجها ثم قذفها ولاعنها وطلبته بحد القذف قبل النكاح حد لها ، ولو لم يلتعن حتى حده الإمام بالقذف الأول ثم طلبته بالقذف بعد النكاح لاعن ؛ لأن حكمه قاذفا غير زوجته وحكمه قاذفا زوجته الحد أو اللعان " .

قال الماوردي : وهذه مسألة قسم الشافعي أحوالها ثلاثة أقسام ، ولها مقدمة يجب أن يبدأ بها ليكون جواب هذه الأقسام محمولا عليها ، ومقدمتها مصورة في رجل قذف أجنبية ثم قذفها ثانية وهي أجنبية ، فلا يخلو حال القذف الثاني من أحد أمرين : إما أن يكون قبل حد القذف الأول أو بعده ، فإن كان القذف الثاني بعد أن حد من القذف الأول فهو على ضربين :

أحدهما : أن يقذفها ثانية بالزنا الأول ، فليس عليه في القذف الثاني حد ؛ لأنهما قذف بزنا واحد وقد حد فيه ، فلم يجز أن يعاد الحد فيه ؛ لأن لا يجتمع في القذف بالزنا الواحد حدان ، كما لا يجوز أن يجتمع في فعل الزنا الواحد حدان ، ولكن يعزر في إعادة القذف الثاني لأجل الأذى .

والضرب الثاني : أن يقذفها ثانية بزنا ثان غير الزنا الأول فيجب عليه حد ثان بعد الحد الأول ؛ لأنه قذف بزنائين ، فإذا حد لأحدهما وجب أن يحد للآخر كما لو زنا [ ص: 114 ] فحد ، ثم زنا ثانية يحد حدا ثانيا ، فهذا حكم القذف الثاني إذا كان بعد حد القذف الأول ، وأما إن كان قبل القذف الأول ، فهو أيضا على ضربين :

أحدهما : أن يكون القذف الثاني بالزنا الأول ، فلا يلزمه في القذفين إلا حد واحد ؛ لأنهما بزناء واحد ؛ كما لو كرر لفظ القذف لوقته فقال : زنيت ، زنيت ، لم يكن عليه إلا حد واحد .

والضرب الثاني : أن يكون القذف الثاني بزناء ثان غير الزنا الأول كأنه قال في القذف الأول : زنى بك زيد ، ثم قال في القذف الثاني : زنى بك عمرو ، ففيهما قولان :

أحدهما : وهو قوله في الجديد ، ونص عليه في القديم ، أنه ليس عليه فيهما إلا حد واحد ويدخل أحد القذفين في الآخر ؛ لأن فعل الزنا أغلظ من القذف به ، وقد ثبت أنه لو زنى فلم يحد حتى زنى حد لهما حدا واحدا .

والقول الثاني : وهو مخرج من دليل كلامه في القديم لأنه قال : عليه لهما حد واحد ، ولو قيل : عليه حدان ، كان مذهبا فخرجه أصحابنا قولا ثانيا في القديم ، ثم إن لهذين القذفين حدين ، بخلاف الزنائين ، لأن حد الزنا من حقوق الله تعالى المحضة فجاز أن يتداخل ، وحد القذف من حقوق الآدميين فلم يجز أن يتداخل .

التالي السابق


الخدمات العلمية