الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " ولو زنت بعد القذف أو وطئت وطئا حراما ، فلا حد عليه ولا لعان إلا أن ينفي ولدا فيلتعن ؛ لأن ذلك دليل على صدقه ( قال المزني ) - رحمه الله - : كيف يكون دليلا على صدقه والوقت الذي رماها فيه كانت في الحكم غير زانية ؛ وأصل قوله إنما ينظر في حال من تكلم بالرمي وهو في ذلك في حكم من لم يزن قط " .

قال الماوردي : وصورتها في قاذف الزنا وجب الحد عليه فلم يحد حتى زنا المقذوف ، فذهب الشافعي إلى أن الحد يسقط عن القاذف بما حدث من زنا المقذوف .

وبه قال مالك وأبو حنيفة .

وقال المزني ، وأبو ثور : لا يسقط الحد استدلالا بأمرين :

أحدهما : أن حد القذف معتبر بحال الوجوب لا بما يحدث بعده ، بدليل أن من قذف عبدا فأعتق لم يحد ، ولو قذف مسلما فارتد لم يسقط الحد اعتبارا بحال الوجوب .

[ ص: 124 ] والثاني : أن شواهد الأصول في جميع الحدود مستقرة على اعتبارها بوقت الوجوب ، كالزاني إذا زنى بكرا فلم يحد حتى أحصن لم يرجم . وكالسارق لما قيمته ربع دينار فصاعدا إذا انقضت قيمته قبل القطع لم يسقط القطع ، فاقتضى أن يكون حد القذف بمثابتها في اعتباره بوقت الوجوب .

ودليلنا أربعة أشياء :

أحدها : أن الله تعالى أوجب الحد على قاذف المحصن إثباتا لعفته ، والزاني لا يثبت له عفة فلم يجب في قذفه حد .

والثاني : أن حد القذف موضوع لإسقاط المعرة عن المقذوف ، و المعرة تسقط عنه إذا زنى فلم يجب في قذفه حد .

والثالث : أن من عادة من لا يبالي باجتناب المعاصي أن يستتر بإخفائها وأن ظهورها منه لا يكون إلا بعد كثرتها وتكرارها ، حمل إلى عمر - رضي الله عنه - رجل زنى ، فقال : والله ما زنيت قبل هذا ، فقال عمر : كذبت إن الله لا يفضح عبده بأول معصية فكان فيما ظهر زناه دليل على تقدمه منه فلم يحد قاذفه .

والرابع وهو العمدة : أن العفة تكون استدلالا بالظاهر دون اليقين كالعدالة ؛ لأنه قد يجوز أن يخفي غير ما يظهر ، فإذا ظهر ما كان يخفيه من الزنا قدح في الاستدلال بظاهر العفة فسقط ثبوتها ، فلم يجز أن يحد قاذفه كالشاهد إذا شهد ، وهو على ظاهر العدالة ، فلم يحكم بها حتى ظهر فسقه فسقط الاستدلال بظاهر عدالته ، فلم يجز أن يحكم بما تقدم من شهادته ، فإن قيل : لا يصح الجمع بين العفة والعدالة من وجهين :

أحدهما : أن الردة تسقط ما تقدمها من الشهادة ، ولا تسقط ما تقدمها من العفة .

والثاني : أن البحث عن العدالة لازم ، والبحث عن العفة غير لازم ، فجاز أن تثبت العفة بالظاهر الذي لا تثبت العدالة فافترقا ، قيل : هذان الوجهان لا يقدح فيهما بما تقدم من الاستدلال ، ولا يمنع من الجمع بين العفة والعدالة .

أما أول الوجهين : في الفرق بينهما بالردة فالجواب عنه : أن حد القذف موضوع لحراسة العفة من القذف بالزنا دون الردة ، فجاز أن تسقط بحدوث الزنا وإن لم تسقط بحدوث الردة ، والعدالة محروسة من جميع الكبائر فاستوت فيه الردة وغيرها وإن خالفت في العفة غيرها .

[ ص: 125 ] وأما الثاني من الوجهين في الفرق بين العفة والعدالة بوجوب البحث عن العدالة دون العفة ، فالجواب عنه : أن أصحابنا قد اختلفوا في وجوب البحث عن العفة مع إجماعهم في وجوب البحث عن العدالة ، فلهم في ذلك وجهان :

أحدهما : أنه يجب البحث عن العفة في حق القاذف ؛ لأن جنبه حمى فلا يستباح عرضه بالاحتمال ، فعلى هذا لا فرق بين العفة والعدالة .

والوجه الثاني : أنه لا يجب البحث عن العفة ، وإن وجب البحث عن العدالة .

والفرق بينهما : أن البحث عن العدالة إنما يجب في حق المشهود عليه ولم تظهر منه معصية ، فجاز الاستظهار له بالبحث عن عدالة من شهد عليه وليس كذلك في العفة ؛ لأن البحث عنها في حق القاذف - والقاذف عاص بقذفه - وإن كان صادقا لما ندب إليه من الستر على أخيه ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هلا سترته بثوبك يا هزال فكان بأن يستظهر عليه المقذوف بترك البحث أولى من أن يستظهر له ، ثم افتراق العفة والعدالة في البحث لا يمنع من أن يستويا في العلم بهما من طريق الاستدلال .

فأما الجواب عن دليل المزني فهو أن العلم بتقدم الرق والبكارة وقيمة النصاب في السرقة معلوم قطعا ، فلم يؤثر فيه ما حدث بعده . وليس كذلك العفة ؛ لأنها معلومة استدلالا فأثر فيها ما حدث بعدها كالعدالة .

التالي السابق


الخدمات العلمية