الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " ولو طلقها فلم يحدث لها رجعة ولا نكاحا حتى ولدت لأكثر من أربع سنين فأنكره الزوج فهو منفي باللعان ؛ لأنها ولدته بعد الطلاق لما لا يلد له النساء ( قال المزني ) رحمه الله : فإذا كان الولد عنده لا يمكن أن تلده منه فلا معنى للعان به ويشبه أن يكون هذا غلطا من غير الشافعي " . قال الماوردي : ومقدمة هذه المسألة بيان أقل الحمل وأكثره ، فأما مدة أقل الحمل الذي يعيش بعد الولادة فستة أشهر استنباطا من نص وانعقادا من إجماع واعتبارا بوجود . أما استنباط النص فقول الله : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ الأحقاف : 15 ] فجعلها مدة للحمل ولفصال الرضاع ، ولا تخلو هذه المدة من أربعة أحوال . إما أن تكون جامعة لأقلهما أو لأكثرهما أو لأكثر الحمل وأقل الرضاع أو لأقل الحمل وأكثر الرضاع فلم يجز أن تكون جامعة لأقليهما ؛ لأن أقل الرضاع غير محدد ، ولم يجز أن تكون جامعة لأكثرهما لزيادتها على هذه المدة ، ولم يجز أن تكون جامعة لأكثر الحمل وأقل الرضاع : لأن أقله غير محدد فلم يبق إلا أن تكون جامعة لأقل الحمل وأكثر الرضاع ثم ثبت أن أكثر الرضاع حولان لقول الله : حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة [ البقرة : 233 ] علم أن الباقي وهو ستة أشهر مدة أقل الحمل . وأما انعقاد الإجماع فما روي أن رجلا تزوج امرأة على عهد عثمان رضي الله تعالى عنه ، فولدت فرافعها إليه فهم عثمان برجمهما ، فقال له ابن عباس : إن خاصمتك المرأة خاصمتك بالقرآن ، فقال عثمان رضي الله تعالى عنه : ومن أين ذلك ؟ فقال : قال الله : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ الأحقاف : 15 ] وقال : والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة [ البقرة : 233 ] فإذا ذهب الحولان [ ص: 205 ] من ثلاثين شهرا كان الباقي لحمله ستة أشهر فعجب الناس من استخراجه ورجع عثمان ، ومن حضر رضي الله تعالى عنهم إلى قوله فصار إجماعا . وأما اعتبار الوجود فما حكي أن الحسين بن علي عليهما السلام ولد بعد ستة أشهر من ولادة أخيه الحسن رضوان الله عليهما . وأما مدة أكثر الحمل فقد اختلف الفقهاء ، فمذهب الشافعي إلى أن أكثر مدته أربع سنين . وقال الزهري ، وربيعة ، والليث بن سعد : أكثر مدته سبع سنين ، وعن مالك ثلاث روايات : روي عنه أربع سنين ، وروي خمس سنين ، وروي سبع سنين وقال أبو حنيفة : أكثر مدته سنتان . وبه قال المزني استدلالا بقول الله : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ الأحقاف : 15 ] فجعلها مقصورة على المدتين فلم يجز أن تكون إحداهما أكثر منهما ؛ ولأن هاتين المدتين مجمع عليهما فلم يجز الانتقال عنهما إلا بإجماع أو دليل . ودليلنا : هو أن كل ما احتاج إلى حد وتقدير إذا لم يتقدر بشرع ولا لغة كان مقداره بالعرف والوجود كالحيض ، والنفاس ، وقد وجد مرارا حمل وضع لأربع سنين ، روى داود بن رشيد عن الوليد بن مسلم ، قال : قلت لمالك بن أنس : إني حدثت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : لا تزيد المرأة في حملها على سنتين قدر ظل المغزل فقال : سبحان الله من يقول هذا ؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان امرأة صدق وزوجها رجل صدق وحملت ثلاثة أبطن في اثني عشر سنة تحمل كل بطن أربع سنين . وروى المبارك بن مجاهد قال : مشهور عندنا كانت امرأة محمد بن عجلان تحول وتضع في أربع سنين فكانت تسمى حاملة الفيل . وروى الشافعي عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد القرشي أن سعيد بن المسيب رأى رجلا ، فقال : إن أبا هذا غاب عن أمه أربع سنين ثم قدم فوضعت هذا ، وله ثنايا . وروى هشام بن يحيى المجاشعي قال : بينما مالك بن دينار يوما جالس إذ قام رجل ، فقال : يا يحيى ، ادع لامرأتي حبلى منذ أربع سنين قد أصبحت في كرب شديد فغضب مالك وأطبق المصحف ، وقال : ما يرى هؤلاء القوم إلا أنا أنبياء ، ثم دعا ، ثم قال اللهم [ ص: 206 ] هذه المرأة إن كان في بطنها ريح فأخرجها عنها الساعة وإن كان في بطنها جارية فأبدلها بها غلاما فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب ثم رفع مالك يده ورفع الناس أيديهم وجاء الرسول إلى الرجل فقال : أدرك امرأتك : فذهب الرجل فما حط مالك يده حتى طلع الرجل من باب المسجد على غلام جعد قطط ابن أربع سنين ، قد استوت أسنانه ما قطعت أسراره ، وإذا كان هذا النقل صحيحا من طرق مختلفة ثبت وجوده واستقر حكمه ، فأما الآية فقد ذكرنا ما اقتضته وفيه جواب . وأما الإجماع فقد انتقلنا عنه بالوجود .

التالي السابق


الخدمات العلمية