الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " فإن قيل فكيف لم ينف الولد إذا أقرت أمه بانقضاء العدة ، ثم ولدت لأكثر من ستة أشهر بعد إقرارها ؟ قيل : لما أمكن أن تحيض وهي حامل فتقر بانقضاء العدة على الظاهر ، والحمل قائم لم ينقطع حق الولد بإقرارها بانقضاء العدة وألزمناه الأب ما أمكن أن يكون حملا منه وكان الذي يملك الرجعة ولا يملكها في ذلك سواء ؛ لأن كلتيهما تحلان بانقضاء للأزواج وقال في باب اجتماع العدتين والقافة : إن جاءت بولد لأكثر من أربع سنين من يوم طلقها الأول إن كان يملك الرجعة دعا له القافة وإن كان لا يملك الرجعة فهو للثاني ( قال المزني ) رحمه الله : فجمع بين من له الرجعة عليها ومن لا رجعة له عليها في باب المدخول بها وفرق بينهما بأن تحل في باب اجتماع العدتين والله أعلم " .

قال الماوردي : وصورتها في مطلقة أقرت بانقضاء عدتها بالشهور ، أو الأقراء [ ص: 214 ] في طلاق بائن أو رجعي ، ثم وضعت ولدا ، فإن وضعته لأقل من ستة أشهر من وقت الطلاق كان حقا بالزوج إجماعا ، وإن وضعته لستة أشهر فصاعدا أو إلى أربع سنين ، وهي خلية من زوج فمذهب الشافعي أنه لاحق بالمطلق ولا يكون إقرارها بانقضاء العدة مبطلا لنسبه . وقال أبو حنيفة : لا يلحق به وتابعه ابن سريج استدلالا بأن الحكم بانقضاء عدتها قد أباحها للأزواج فانقطعت به أسباب الأول فلو لحق به الولد لما كانت أسبابه منقطعة ، ولما كانت مباحة للأزواج ولنقضنا حكما قد نفذ على الصحة بأمر محتمل ومجوز وهذا كله غير جائز فامتنع به لحوق الولد . وتحريره قياسا : أنها أتت بولد بعد ارتفاع الفراش وانقطاع أحكامه فوجب أن لا يلحق به كما لو وضعته لأكثر من أربع سنين ؛ ولأنها مؤتمنة على عدتها ومصدقة في انقضائها فوجب أن لا يحكم بإبطالها من لم يتحقق كذبها اعتبارا بسائر الأمناء وفي لحوق الولد به تكذيب لها في انقضاء عدتها ؛ ولأنها أتت بعد انقضاء عدتها بحمل تمام فوجب أن لا يلحق به كما لو تزوجت ثم وضعته لتمام . قال ابن سريج : ولأنه لما انتفى عنه ولد أمته إذا وضعته لستة أشهر بعد استبرائها وجب أن ينتفي عنه حمل زوجته إذا وضعته لستة أشهر بعد عدتها . ودليلنا قول النبي صلى الله عليه وسلم : الولد للفراش وللعاهر الحجر معلوم أنه ليس الخبر مقصورا على أن تلده على فراشه ؛ لأنها لو ولدته بعد ارتفاع الفراش لأقل من ستة أشهر لحق به فدلك على أن المراد به أن يكون قد حملت به على فراشه ، وهذا الولد يمكن أن يكون قد حملت به على فراشه ، فوجب بظاهر الخبر أن يكون لاحقا به ، ولأن العدة تنقضي بالشهور تارة وبالأقراء تارة أخرى ثم وافقونا أن انقضاء عدتها بالشهور لا تمنع من لحوق الولد فكذلك إذا انقضت بالأقراء . ويتحرر من ذلك قياسان : أحدهما : أن كل ولد لحق بالإمكان إذا انقضت العدة بالشهور لحق بالإمكان إذا انقضت العدة بالأقراء كالمولود لأقل من ستة أشهر . والثاني : أن كل ولد لحق لأقل من ستة أشهر بعد العدة جاز أن يلحق لأكثر من ستة أشهر بعد العدة كالمعتدة بالشهور ، ولأن الولد في الابتداء يلحق بالإمكان إذا وضعته لأقل الحمل فوجب أن يلحق في الانتهاء لإمكان إذا وضعته لأكثر الحمل [ ص: 215 ] ولأنها قد تحيض على الحمل فإذا أقرت بانقضاء العدة على الظاهر من حيضها لم يوجب إقرارها انتفاء النسب في حق ولدها وهو استدلال الشافعي . وتحريره قياسا : أنه إلحاق ولد بحكم الفراش فلم يختلف حكمه بإقرار المفترشة . أصله : إذا أقرت بما يتضمن نفي النسب مع بقاء الفراش . فأما الجواب عن استدلالهم بما حكم به من انقضاء عدتها ، وإباحتها للأزواج فلم تنقض بالجواز فمن وجهين : أحدهما : أننا حكمنا بانقضائها في الظاهر ، ثم حدث من حملها ما خالف الظاهر فجاز أن ينقضي كما لو ولدته لأقل من ستة أشهر . والثاني : أنه لما لم يمنع ذلك من نقضها إذا انقضت بالشهور لم يمنع من نقضها إذا انقضت بالأقراء ، وبمثله يجاب عن الاستدلال بقولهم : إنها مؤتمنة . وأما الجواب عن قياسهم : إذا تزوجت فهو أنه لما تقابل بعد تزويجها حكم فراش ثابت وحكم فراش زائل غلب أقواهما ، وهو الفراش الثابت فلحق به الولد وإذا لم تتزوج انفرد حكم الفراش الزائل فلحق به الولد . وأما الجواب عن الاستدلال بولد الأمة فهو أن يتزوج ، والمذهب فيه أن الشافعي قال فيه : إنه لا يلحق به إذا ولدته بعد ستة أشهر من استبرائها .

وقالت في ولد الحرة : إنه يلحق به إذا ولدته بعد ستة أشهر من انقضاء عدتها ، فاختلف أصحابنا فكان ابن سريج يجمع بين الجوابين ويخرجها على اختلاف قولين : أحدهما : يلحق به ولد الحرة والأمة على ما نص عليه في ولد الحرة .

والقول الثاني : لا يلحق به ولد الحرة والأمة على ما نص عليه في ولد الأمة ، فعلى هذه التسوية بطل الاستدلال . وقال سائر أصحابنا : إن الجواب محمول على ظاهر نصه فيه فيلحق به ولد الحرة بعد عدتها ولا يلحق به ولد الأمة بعد استبرائها ، والفرق بينهما أن ولد الحرة لحق في الابتداء بالإمكان فلحق في الانتهاء بالإمكان ، وولد الأمة لما لم يلحق في الابتداء بالإمكان حتى يعترف بالوطء لم يلحق في الانتهاء بالإمكان إذا ارتفع حكم الوطء ، ثم يقال لأبي حنيفة : أنت تلحق الولد مع عدم الإمكان ، وتنفيه مع وجود الإمكان فنقول : فيمن نكح في مجلس الحاكم وطلق فيه أن الولد لاحق به إذا ولد لستة أشهر والعلم محيط أنه ليس منه ، ونقول في المطلقة بعد العدة : إن الولد لا يلحق به إذا [ ص: 216 ] ولدته لستة أشهر وإن جاز أن يكون منه وفي هذا من الاستحالة وعكس المعقول ما يمنع من القول به . فأما قول الشافعي : وكان الذي يملك الرجعة ولا يملكها في ذلك سواء يعني في وضع الولد في نفيه عنه لأكثر من أربع سنين أم لا ؟ على قولين : أحدهما : وهو ظاهر كلامه هاهنا أنهما يستويان في نفي الولد عنه . والثاني : يفترقان فينفى عنه في البائن ويلحق به في الرجعي لما قدمناه من الفرق بينهما ، والله أعلم بالصواب . [ ص: 217 ] باب لا عدة على التي لم يدخل بها زوجها .

التالي السابق


الخدمات العلمية