الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " وإن كانت هذه المسائل في موته ففيها قولان : أحدهما ما وصفت ومن قاله احتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم لفريعة : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله والثاني أن الاختيار للورثة أن يسكنوها فإن لم يفعلوا فقد ملكوا دونه فلا سكنى لها كما لا نفقة لها ، ومن قاله قال : إن قول النبي صلى الله عليه وسلم لفريعة : " امكثي في بيتك ما لم يخرجك منه أهلك " لأنها وصفت أن المنزل ليس لزوجها ( قال المزني ) : هذا أولى بقوله لأنه لا نفقة لها حاملا وغير حامل ، وقد احتج بأن الملك قد انقطع عنه بالموت ( قال المزني ) : وكذلك قد انقطع عنه السكنى بالموت وقد أجمعوا أن من وجبت له نفقة وسكنى من " ولد ووالد على رجل فمات انقطعت النفقة لهم والسكنى لأن ماله صار ميراثا لهم ، فكذلك امرأته وولده وسائر ورثته يرثون جميع ماله " .

قال الماوردي : أما النفقة فلا تجب في عدة الوفاة إجماعا حاملا كانت أو حائلا ، وفي وجوب السكنى قولان : أحدهما : لا سكنى لها . وبه قال من الصحابة علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عباس ، وعائشة رضي الله تعالى عنهم ، وهو قول أبي حنيفة والعراقيين واختيار المزني . والقول الثاني : لها السكنى . وبه قال من الصحابة عمر ، وعثمان ، وابن عمر ، وابن مسعود وزيد بن ثابت ، وأم سلمة رضي الله عنهم : وهو قول مالك ، وكثير من الفقهاء . واستدل من أسقط السكنى بأن السكنى تجري مجرى النفقة : لأنها تجب بوجوبها في الزوجية وتسقط بسقوطها في النشوز ، وقد سقطت النفقة بالموت فوجب أن تسقط به السكنى وتحريره قياسا : أن ما استحق في مدة الزوجية سقط في عدة الوفاة كالنفقة : ولأن ملكه قد انتقل بموته إلى وارثه فاقتضى أن لا يجب السكنى على الزوج لزوال ملكه كما لم تجب عليه النفقة ، وأن لا تجب على الوارث المالك : لأنه غير زوج كما لا تجب عليه النفقة : ولأنه لو وجبت لها السكنى حاملا لوجبت لها النفقة حاملا [ ص: 257 ] كالمبتوتة ، وفي سقوط نفقتها في الحالين دليل على سقوط سكناها في الحالين ؛ ولأنه لما سقط بالموت سكنى الأقارب لسقوط نفقاتهم وجب أن يسقط به سكنى الزوجات لسقوط نفقاتهم . واستدل من أوجب السكنى بما روته زينب بنت كعب بن عجرة أن الفريعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد الخدري أخبرتها أنها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كانوا بطرف القدوم لحقهم فقتلوه ، قالت : فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي في بني خدرة ؛ فإنه لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم ، فخرجت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمر بي فدعيت له ، فقال : كيف ؟ فرددت عليه القصة ، فقال : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله . فاعتدت فيه أربعة أشهر وعشرا : فلما كان عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أرسل إلي وسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به ، فلو لم تستحق السكنى على الزوج لما أعادها إلى مسكن قد استعاره ولم يملكه . فإن قيل : فكيف أذن لها في النقلة ثم منعها ففيها تأويلان : أحدهما : أنه كان لسهو أسقط منه . والثاني : أنه كان لاجتهاد نقل عنه . فإن قيل : فعلى هذا يكون نسخا والنسخ قبل الفعل لا يجوز . قيل : إنما لا يجوز نسخه قبل زمان فعله ، ويجوز قبل فعله ؛ ولأن العدة إذا وجبت بموت الزوج تحصينا لمائه وحفظا لحرمته كانت أوكد من عدة الطلاق المختصة بتحصين مائه دون حرمته فاقتضى أن يكون بوجوب السكنى أحق من الطلاق . وتحريره قياسا : أنها عدة من نكاح فوجب أن تستحق فيها السكنى كالطلاق : ولأنها لما خصت بالسكنى في عدة الطلاق مع قدرة الزوج على نفي ولدها باللعان كان أولى أن يختص بالسكنى في عدة الوفاة مع عدم القدرة على نفي ولدها باللعان : ولأن المغلب في عدة الوفاة التعبد ، والاستبراء تبع ، والمغلب في عدة الطلاق الاستبراء والتعبد تبع : لأن غير المدخول بها تجب عليها عدة الوفاة ولا تجب عليها عدة الطلاق فلما وجب السكنى في الاستبراء كان أولى أن تجب في التعبد : لأن حقوق الله أوكد ولفحوى هذا المعنى فرقنا بين النفقة والسكنى وبين سكنى الأقارب والزوجات ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية