الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو صلى رجل وفي ثوبه نجاسة من دم أو قيح وكان قليلا مثل دم البراغيث ، وما يتعافاه الناس لم يعد ، وإن كان كثيرا أو قليلا بولا أو عذرة أو خمرا وما كان في معنى ذلك أعاد في الوقت وغير الوقت . ( قال المزني ) . ولا يعدو من صلى بنجاسة من أن يكون مؤديا فرضه أو غير مؤد وليس ذهاب الوقت بمزيل منه فرضا لم يؤده ، ولا إمكان الوقت بموجب عليه إعادة فرض قد أداه " .

قال الماوردي : هذا صحيح ، توقي الأنجاس واجب في الصلاة ، وبه قال الفقهاء ، وإن صلى بالنجاسة فصلاته باطلة ، وقال ابن عباس ، وابن مسعود ، وسعيد بن جبير ، وابن أبي ليلى : إن صلى وعلى ثوبه أو بدنه نجاسة ، فصلاته جائزة ، قلت النجاسة أو كثرت أي نجاسة كانت .

وروي عن ابن مسعود أنه نحر جزورا وأصاب ثيابه من فرثها ، ودمها ، فقام ، وصلى .

وروي عن ابن عباس أنه قال : ليس على الثوب جنابة .

وقال سعيد بن جبير ، اتلوا علي الآية التي فيها غسل الثوب من النجاسة ، والدلالة على ما ذهبنا إليه قوله تعالى : وثيابك فطهر والرجز فاهجر [ المدثر : 4 ، 5 ] . والرجز : النجاسة وأما قوله تعالى : وثيابك فطهر ففيه تأويلان :

[ ص: 241 ] أحدهما : قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، أن تأويله لا تلبس ثيابك على الغدر والمعاصي ، والعرب تقول لمن غدر دنس الثوب ، ولمن وفى بعهده طاهر الثوب وقال امرؤ القيس :


ثياب بني عوف طهارى نقية وأوجههم عند المشاهد غران

والثاني : أنه أراد وثيابك فقصر كي لا تنجر كبرا ، أو خيلاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ، وما بين ذلك إلى الكعبين فمباح وما فوق الكعبين في النار .

والتأويل الثالث : قاله الحكم ، ومجاهد : أن معناه وعملك فأصلح . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يحشر المرء في ثوبيه اللذين مات فيهما يعني : عمله الصالح ، والطالح .

والتأويل الرابع : قال الحسن معناه : أن خلقك فحسن .

والتأويل الخامس : أن معناه وقلبك فطهر قال الشاعر :


وإن تك قد ساءتك مني خليقة     فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي

يعني : قلبي من قلبك .

والتأويل السادس : وهو الصحيح ، وبه قال محمد بن سيرين ، والفقهاء : إن معناه وثيابك فطهر [ المدثر : 4 ] . من النجاسة بالماء ، وهو المعمول عليه ، لأن حقيقة الثياب ما لبست ، وحقيقة الطهارة عن النجاسة فلا وجه لحمله على غير الظاهر إذا كان الظاهر جليا ، وقال عز وجل : وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود فيه تأويلان :

أحدهما : من الأصنام .

والثاني : من المشركين ، فإذا وجب تطهيره من الأصنام والمشركين مع طهارتهم كان تطهيره من الأنجاس أولى .

وروى الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أكثر عذاب القبر من البول وما وجب العذاب من أجله فاجتنابه واجب .

وروت أسماء بنت أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في دم الحيض : حتيه ، ثم اقرضيه ، ثم اغسليه بالماء وروت أم قيس بنت محصن أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يصيب الثوب فقال : اقرضيه ، واغسليه بماء وسدر فدل أمره بغسله على وجوب إزالته .

[ ص: 242 ] فإذا تقرر هذا فالنجاسة ضربان :

أحدهما : ما استوى حكم قليله وكثيره في المنع منه وبطلان الصلاة به وهو الغائط ، والبول ، والخمر ، وما لا يشق التحرز منه .

وقال أبو حنيفة : يعني عن قدر الدرهم البغلي ، فما دونه قال : لأنها نجاسة يسيرة فوجب أن يعفى عنها قياسا على أثر الاستنجاء .

وقال مالك : إن كان وقت الصلاة باقيا أعاد الصلاة في قليل النجاسة ، وكثيرها وإن فات لم يعد في قليل النجاسة وكثيرها .

واستدل بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فرأى في ثوبه لمعا من نجاسة فبعث به إلى عائشة رضي الله عنها لتغسله ، ولم ينقل أنه أعاد صلاته .

والدلالة عليهما من طريق المعنى : على ما تقدم من الظواهر هو أنها نجاسة يمكن الاحتراز منها فوجب أن لا يعفى عنها .

أصله مع أبي حنيفة ما زاد على الدرهم ومع مالك ما لم يخرج الوقت ، ولأن التطهير إذا أمكن من غير مشقة في محل لم يجز العفو عنه عن قدر الدرهم كأعضاء الطهارة في الحدث .

فأما قياس أبي حنيفة على أثر الاستنجاء فغير جائز ، لأن الاستنجاء عنده غير واجب ، فكيف يكون أصلا لواجب ، لأن الحرام لا يجوز أن يقنص من أصل حلال ، ولا الحلال من أصل حرام على أن موضع الاستنجاء مخصوص بالرخصة معدول عن حكم النجاسة فلم يجز أن يقاس عليه غيره وكيف قدره أبو حنيفة بالدرهم ، وقد يختلف على اختلاف الناس في خلقتهم ، وأما ما استدل به مالك من الخبر ففيه جوابان :

أحدهما : أنه وإن لم يقض الصلاة في الحال فيجوز أن يكون قضاها بعد زمان ، لأن تعجيل القضاء على الفور ليس بواجب .

والثاني : أنه لم يعد ، لأنه لم يعلم النجاسة إلا بعد فراغه من الصلاة ، والإعادة عندنا في مثله غير واجبة في أحد القولين ، ثم أفسد مذهبه بما ذكره المزني من أن لا يعدو من صلى بنجاسته من أن يكون مؤديا فرضه ، أو غير مؤد وليس ذهاب الوقت بمزيل عنه فرضا لم يؤده ، ولا إمكان الوقت بموجب عليه إعادة فرض قد أداه .

والضرب الثاني : من النجاسة ما عفي عن قليله ، ولم يعف عن كثيره ، وذلك مثل دم البراغيث ، وماء القروح ، والبثور ، والمدة إذا لم يختلط كل ذلك بدم ، لأن في التحرز من قليل ذلك مشقة غالبة ، فأما سائر الدماء سوى دم البراغيث ففيها ثلاثة أوجه لأصحابنا : أحدها كالأبوال لا يعفى عن قليلها وكثيرها لدفع المشقة في التحرز منها .

[ ص: 243 ] والوجه الثاني : كدم البراغيث يعفى عن قليلها دون كثيرها .

والوجه الثالث : وهو قول أبي العباس ، وكأنه أصح : يعفى عن قليل دم الإنسان من فصاده ، أو حجامه ، أو رعافه ، أو جرحه ، ولا يعفى عن دم غيره من بهيمة ، أو آدمي ، فأما الفرق بين قليل ذلك وكثيره فلا حد له إلا ما يتعارفه الناس من القليل ، والكثير ، وقد قال الشافعي في موضع من " المبسوط " : إذا كان ماء القروح لمعة وجب إزالته .

وقال في القديم : إذا كان كقدر الكف وجبت إزالته ، وليس ذلك مختلفا بل هو تقريب على معنى الفرق والعادة ، فإن فحش وجبت إزالته ، وإن قل عفي عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية