الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : القول في تفريق الوضوء

قال الشافعي رضي الله عنه : وإن فرق وضوءه ، وغسله أجزأه ، واحتج في ذلك بابن عمر .

قال الماوردي : اعلم أن الموالاة في الوضوء أفضل ، ومتابعة الأعضاء أكمل انقيادا لما يقتضيه الأمر من التعجيل واتباعا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم . فإن فرق فالتفريق ضربان قريب وبعيد : فالقريب معفو عنه لا تأثير له في الوضوء وحده ما لم تجف الأعضاء مع اعتدال الهواء في غير برد ولا حر مشتد وليس الجفاف معتبرا ، وإنما زمانه هو التعبير .

وأما البعيد فهو أن يمضي زمان الجفاف في اعتدال الهواء ففيه قولان :

أحدهما : وبه قال في القديم أنه غير جائز والوضوء معه غير صحيح وبه قال من الصحابة عمر بن الخطاب ، ومن الفقهاء الأوزاعي وأحمد .

والقول الثاني : وبه قال في الجديد أنه جائز والوضوء معه صحيح ، وبه قال من الصحابة عبد الله بن عمرو ومن التابعين الحسن وسعيد بن المسيب ، ومن الفقهاء الثوري وأبو [ ص: 137 ] حنيفة . وقال مالك والليث بن سعد : إن فرقه لعذر جاز ، وإن فرقه لغير عذر لم يجز . ووجه القول الأول بأنه لا يجوز أن مطلق أمر الله تعالى بالوضوء لقوله : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم [ المائدة : 6 ] . يقتضي الفور والتعجيل وذلك يمنع من التأجيل ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ على الولاء ثم قال : " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " يعني إلا بمثله في الموالاة ، وروى قتادة عن أنس أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد توضأ وترك على قدميه مثل موضع الظفر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ارجع فأحسن وضوءك " ولأنها عبادة يرجع في حال العذر إلى شطرها فوجب أن تكون الموالاة من شرطها كالصلاة .

ووجه قوله في الجديد بأنه يجوز ، هو أن التفريق لا يمنع من امتثال الأمر في قوله تعالى : فاغسلوا وجوهكم ، فوجب ألا يمنع من الإجزاء ، فإن قيل : فالأوامر تقتضي الفور ، قيل : فيه بين أصحابنا خلاف ، وروى نافع ، عن ابن عمر أنه توضأ في منزله وفي رجليه خفان فلم يمسح عليهما حتى خرج إلى المسجد فحضرت جنازة فدعى بماء فمسح على خفيه وذلك بالمدينة فلم ينكر ذلك عليه أحد ، ولأنه تفريق في تطهير فجاز كالتفريق اليسير ولأن كل عبادة جاز فيها التفريق اليسير جاز فيها التفريق الكثير كالحج طردا ، والصلاة عكسا ، ولأن كل عبادة جاز تفريق النية على أبعاضها جاز تفريق أبعاضها كالزكاة ، وبيان ذلك أنه لما جاز تفريق نية الزكاة على ما يؤديه حالا بعد حال ، جاز تفريق ما يؤديه في زمان بعد زمان ، كذا الوضوء لما جاز تفريق النية على أعضائه جاز تفريق النية على أعضائه .

فصل : فإذا ثبت ما ذكرنا من توجيه القولين فالحكم في الوضوء والغسل سواء وتفريقهما على قولين :

فأما تفريق التيمم فقد اختلف أصحابنا فيه فكان أبو الحسن بن القطان وطائفة يخرجونه على قولين كتفريق الوضوء سواء ، وكان جمهور أصحابنا يمنعون من تخريج القولين فيه ويبطلونه بالتفريق قولا واحدا ويفرقون بينهما بأن تعجيل التيمم للصلاة مستحق وتعجيل الوضوء غير مستحق ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية