الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي ، رضي الله عنه : " ويفرك المني فإن صلى به ، ولم يفركه فلا بأس لأن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : " كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يصلي فيه " وروي عن ابن عباس أنه قال : أمطه عنك بإذخرة ، فإنما هو كبصاق ، أو مخاط " .

قال الماوردي : وهذا كما قال المني طاهر في أصل خلقه ، وعلى كل أحواله ، وهذا مذهب الشافعي ، وبه قال من الصحابة عائشة ، وابن عباس ، ومن التابعين سعيد بن المسيب ، وعطاء .

وقال أبو حنيفة : المني نجس في جميع حالاته إلا أنه إن كان يابسا طهر بالفرك وإن كان رطبا طهر بالغسل .

وقال مالك : المني طاهر في أصل خلقه ، وإنما تنجس في ظهوره بمروره في الذكر بمر الأنجاس ، ولا يطهر إلا بالغسل رطبا كان أو يابسا .

[ ص: 252 ] واستدلوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إنما يغسل المني ، والدم ، والبول فدل جمعه بينهم في الحكم على إجماعه في النجاسة ؟ وبما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة ، رضي الله عنها : اغسليه رطبا ، وافركيه يابسا .

ولأنه مائع ينقض الطهارة فأشبه البول ، ولأنه خارج يوجب الغسل ، فأشبه دم الحيض ، ولأنه مائع يخرج على وجه اللذة فأشبه المذي ، ولأن المني في الأصل دم استحال ، ويستحيل دما في ثاني حال فوجب أن يكون نجسا إلحاقا بأحد طرفيه ، وهذا خطأ .

والدلالة على صحة ما ذكرناه قوله تعالى : وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا [ الفرقان : 54 ] . فأطلق على المني اسم الماء ، فوجب أن ينطلق عليه حكمه في الطهارة .

وروى شريك ، عن ابن أبي ليلى ، عن عطاء ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المني : أمطه عنك بإذخرة ، فإنما هو كبصاق ، أو مخاط فشبهه بالبصاق الطاهر في حكمه ، وأمر بإماطته بالإذخرة ، والأنجاس لا تطهر بالحشائش ، فدل من هذين الوجهين على طهارته .

وروى القاسم بن محمد ، عن عائشة ، رضي الله عنها أنها قالت : كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يصلي فيه وهذا دليل على مالك ، لأن أبا حنيفة يجيز فركه يابسا ، وروى ميمون بن مهران ، عن ابن عباس ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي فيه وهذا دليل عليهما ، لأن أبا حنيفة يرى أن فرك المني بعد الإحرام يمنع من انعقاد الصلاة .

[ ص: 253 ] وروى عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر ، ثم يصلي فيه ، ويحته من ثوبه يابسا ، ثم يصلي فيه وهذا آخر دلالة عليهما ، ولأن كل ما لا يجب غسله يابسا لا يجب غسله رطبا .

أصله : سائر الطاهرات ، ولأنه أصل خلق الإنسان ، فوجب أن يكون طاهرا كالطين ، ولأنه متولد من حيوان طاهر فوجب أن يكون طاهرا كالبيض ، ولأنه مائع ينشر الحرمة ، فوجب أن يكون طاهرا كاللبن " ، فإن قيل : المني لا ينشر الحرمة ، قيل : إذا استدخلت الماء لزمتها العدة ، وحرمها ما بقيت في عدتها ، فأما أخبارهم إن صحت فمحمولة على الاستحباب .

وأما قياسهم على البول ، فالمعنى فيه : كونه نجسا ، ووجوب غسل يابسه كوجوب غسل رطبه .

وأما قياسهم على غسل دم الحيض ، بعلة أنه موجب للغسل فليس الدم موجبا للغسل ، وإنما انقطاع الدم يوجبه ، وأما قولهم : إنه دم استحال فغير منكر أن يستحيل منيا كما يستحيل لبنا طاهرا ، قال الله تعالى : وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين [ النحل : 66 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية