الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ القول في طلب المرأة إرضاع ولدها ] مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وإذا طلبت إرضاع ولدها وقد فارقها زوجها فهي أحق بما وجد الأب أن يرضع به فإن وجد بغير شيء فليس للأم أجرة والقول قول الأب مع يمينه ( قال ) في موضع آخر : إن أرضعت أعطاها أجر مثلها ( قال المزني ) رحمه الله : هذا أحب إلي ؛ لقول الله جل ثناؤه ( فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ) [ الطلاق : 6 ] . قال الماوردي : قد ذكرنا أن الأم لا يجبرها الأب على رضاع ولدها مع بقاء الزوجية فكان أولى أن لا يجبرها على رضاعه بعد الفرقة ؛ لأنه لما ضعف عن الإجبار مع استحقاقه لمنافعها كان أولى أن يضعف عنه مع سقوط حقه منها ، وإن طلبت رضاعه لم يخل حالها من ثلاثة أقسام :

أحدها : أن تطلبه متطوعة بغير أجرة فهي أحق برضاعه ، وليس للأب انتزاعه منها لقول الله تعالى : ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ) [ البقرة : 233 ] ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا توله والدة عن ولدها " ولأنها أحن عليه وأشفق ؛ ولأن لبنها أدر عليه وأوفر ؛ ولأنه يستمرئه أكثر من استمراء غيره .

والقسم الثاني : أن تطلب رضاعه بأكثر من أجرة المثل ، فالأب أحق به ليسترضع له غيرها بأجرة المثل ؛ لقول الله تعالى : ( وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى ) [ الطلاق : 6 ] وفي تعاسرتم تأويلان :

أحدهما : تضايقتم .

والثاني : اختلفتم . وفي طلبها أكثر من أجرة المثل تعاسر فجاز للأب أن يعدل به إلى غيرها ؛ ولأن طالب الزيادة في حكم الممتنع ، كالعادم الماء إذا بذل له بأكثر من ثمنه ، فلو كانت ذات لبن لا يستغني عنه المولود وليس يوجد لبن من غيرها أخذت [ ص: 497 ] جبرا بإرضاع اللبن حفاظا لحياة الولد ، وأعطيت أجرة المثل ، ولو قيل : لا أجرة لها لأنه حق قد تعين عليها وعجز الأب عنه فجرى مجرى نفقته إذا أعسر الأب وأيسرت لكان له وجه

والقسم الثالث : أن تطلب رضاعة بأجرة المثل فللأب ثلاثة أحوال :

أحدها : أن لا يجد غيرها إلا بأجرة المثل ، فالأم أحق لفضل حنوها وإشفاقها ولإدرار لبنها عليه .

والحالة الثانية : أن يجد متطوعا برضاعه ففيه قولان :

أحدهما : وهو المستور في هذا الموضع وبه قال أبو حنيفة : أن الأب أحق به ليسترضع له من تطوع لقوله تعالى : ( وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى ) ولأن رضاعه من حقوق المواساة التي تسقط بالاستغناء عن الغرم لنفقة الولد لو تطوع بها متطوع سقط غرمها عن الأب .

والقول الثاني : حكاه المزني عنه أنه قال في موضع آخر : أن الأم أحق برضاعه بأجرة المثل إن وجد الأب متطوعا لقول الله تعالى : ( فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ) ولأن رضاعها أحظ للولد وأدر عليه وأمرأ عليه فصارت به أحق .

والحال الثالثة : أن يجد الأب من يرضعه بأقل من أجرة المثل فينظر في قدر نقصان الأجرة ، فإن كان بقدر زيادة الإدرار وفضل الاستمراء كانت الأم أحق ؛ لأن نقصان الأجرة يعتبر في مقابلة نقصان اللبن ، وتترجح الأم لفضل حنوها ، وإن كان النقصان من أجرة المثل أكثر من فضل الإدرار والاستمراء كان على قولين ، كما لو وجد متطوعا ، فإن أكذبته الأم أنه قد وجد متطوعا حلف لها فإن نكل عن اليمين ردت عليها فإذا حلفت صارت أحق برضاعه بأجرة مثلها ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية