الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : وأما الحالة الثالثة : فهي الكفالة فهي حفظه ومعونته عند تمييزه وقبل كمال قوته ، وذلك بعد سبع أو ثماني سنين إلى أن يتكامل تمييزه ، وقوته فالبلوغ ، فقد اختلف الفقهاء في أي أبويه أحق بكفالته بعد السبع ؟ على ثلاثة مذاهب :

أحدها : وهو مذهب الشافعي أن الولد يخير بينهما فيكون مع من اختاره منهما سواء كان غلاما أو جارية ، اختار أباه أو أمه .

والمذهب الثاني : وهو مذهب مالك أن الأم أحق بالغلام والجارية من غير تخيير .

والمذهب الثالث : وهو مذهب أبي حنيفة أن الأم بالجارية والأب أحق بالغلام ، وإذا أكل وشرب ولبس بنفسه ؛ استدلالا بأن للولد حقين : حق نظر على ماله ، وحق تدبير لبدنه ، فلما لم يرجع إلى خياره على ماله ، فأولى ألا يرجع إلى خياره في تدبير بدنه ؛ لأن حرمة النفس أغلظ من حرمة المال ؛ ولأن مقاصد الصبي جاذبة إلى ما يوافق اللهو واللعب ، فكان تخييره داعيا إلى ضرره وباعثا على فساده ؛ ولأن قول الصبي لا يجري عليه الحكم ، فلم يكن لتخييره حكم .

ودليلنا ما تقدم في صدر الباب من حديث أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير غلاما بين أبيه وأمه .

وقد روي من طريق آخر عن أبي هريرة قال : كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءته امرأة فقالت : يا رسول الله : إن هذا ولدي ، وإن أباه يريد أن يذهب به ، وإنه سقاني من بئر أبي عنبة ، وقد نفعني ، فقال الأب : من يحاقني في ولدي فقال النبي صلى الله عليه وسلم للغلام : " هذا أبوك وهذه أمك فخد بيد أيهما شئت " . فأخذ بيد أمه ، فانطلقت به .

وحديث عمر وعلي رضي الله عنهما دليل أيضا على ما ذكرناه ولا مخالف لهما فدل على ثبوت حكم التخيير بين الولد ووالديه من غير فصل بين الذكر والأنثى فإن قيل : إنه محمول على التخيير بعد البلوغ فهو باطل من وجهين :

أحدهما : أن التخيير عند البلوغ غير مستحق فلم يجز حمله عليه .

والثاني : حديث عمارة أن عليا عليه السلام خيره بين أمه وعمه ، وهو ابن سبع أو ثمان ، وقال لأخ أصغر منه : وهذا أيضا لو قد بلغ خيرته ، فعلم أن بلوغ هذا السن حد لزمان التخيير .

فإن قيل : فحمله على التخيير يرضي الأبوين لم يجز من وجهين :

[ ص: 500 ] أحدهما : تنازع الأبوين فيه وترافعهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس مع الرضا تنازع .

والثاني : أن الأب أنكر على الأم نزاعها وقال : من يحاجني في ولدي ، وهذا خروج عن حد التراخي ؛ ولأن المقصود بالكفالة هو طلب الحظ للولد ، وهو مع ظهور تمييزه أعرف بحظه ، فوجب أن يرجع إلى خياره ؛ لأنه قد عرف من برهما ما يدعوه إلى أبرهما ؛ ولأن أبويه قد استويا فيه فوجب أن يرجع إلى الترجيح بينهما كالمتداعيين دارا إذا كانت في أيديهما وجب مع تساويهما أن يرجع إلى الترجيح بينهما ، وليس للترجيح بين الأبوين وجه غير تخيير الولد ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر " . فخالف في حكمه ما بين قبل السبع وما بعدها ، فوجب أن يكون حكمه في الكفالة بعد السبع مخالفا لحكمه قبلها ولا وجه للمخالفة إلا بالتخيير .

واستدل أبو حنيفة على الفرق بين الغلام والجارية بأن النساء أعرف بتدبير البنات من الرجال فكانت الأم أحق بالبنت ، والرجال أقوم بتعليم البنين وتخريجهم فكان الأب أحق بالابن .

وأما الجواب على اعتبارهم بالنظر في المال فهو أنه قد عرف حال نفسه مع أبويه ، فجاز أن يرجع إلى تخييره بينهما ، ولم يعرف حال ماله فلم يكن له فيه تخيير .

وأما قولهم بأن تخييره يقضي إلى فساده ، فالجواب عنه أن تخييره في الأبوين لا يمنع الآخر من تأديبه وتقويمه وتعليمه . وقولهم : إنه لا حكم لقوله ، فهو أن لا يحكم لقوله في الحقوق الواجبة كالإقرار والشهادة ، ويحكم بقوله في المصالح كما يحكم بقوله في الإذن وقبول الهدية ، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن سلمة أن يصلي بقومه وهو ابن تسع سنين فتبعه الرجال في الصلاة ، ولو لم يكن لقوله حكم ما جاز اتباعه فكان تخييره في حق نفسه أولى .

فأما فرق أبي حنيفة بين الغلام والجارية ؛ فلئن كانت الأم أعرف بتدبير البنات فالأب أقوم بمصالحهن ؛ ولئن كان الأب أعرف بتعليم البنين فليس يمنع من تعليمه إذا اختار أمه .

فصل : وأما الحالة الرابعة : وهي حالة الكفاية ، فهي بعد بلوغ الغلام والجارية لاكتفائهما بأنفسهما عند كمال التمييز والقوة فتزول الكفالة عنهما بالبلوغ ولكل واحد من الغلام والجارية أن ينفرد بنفسه ويعتزل أبويه .

قال الشافعي : " وأكره للجارية أن تعتزل أبويها حتى تتزوج لئلا يسبق إليها ظنه ، ولا تتوجه إليها تهمة ، وإن لم تجبر على المقام معهما " .

وقال أبو حنيفة : لا تزول الكفالة حتى تتزوج ، وتخير بعد البلوغ على المقام مع [ ص: 501 ] من شاءت من أبويها ، وتزول عنها الكفالة بالتزويج : لأن الزوج أحق بها ، فإن طلقت قبل الدخول أو بعده لم تعد الكفالة عليها ، وأقامت حيث شاءت .

وقال مالك : يجب على الجارية أن تقيم مع الأم حتى تتزوج ، فإن طلقت قبل الدخول عادت الكفالة عليها للأم ، وبنى أبو حنيفة ، ومالك ذلك على أصلهما في بقاء النفقة لها حتى تتزوج . والشافعي يسقط نفقتها بالبلوغ فأسقط الكفالة عنها بالبلوغ واستبقى مالك الحجر على مالها حتى تزوج ، وجعل حجر الكفالة تبعا لمالها ، وفيما مضى معها من الكلام فيما جعلاه أصلا لغاية عن تجديد الاحتجاج ، ثم يقال لهما : لما استوى حكم الغلام والجارية في ثبوت الكفالة قبل البلوغ وارتفاعها بعد التزويج ، وجب أن يستويا فيما بين البلوغ والتزويج ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية