الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي ، رضي الله عنه : " والخمر في الأرض كالبول ، وإن لم يذهب ريحه .

قال الماوردي : فأما الخمر فنجس بالاستحالة ، وهو إجماع الصحابة رضي الله عنهم .

وقال الحسن ليس بنجس ، لأن الله سبحانه أعده في الجنة لخلقه ، فقال تعالى : وأنهار من خمر لذة للشاربين [ محمد : 15 ] والله تعالى لا يعد لخلقه نجسا .

[ ص: 260 ] والدلالة عليه مع إجماع الصحابة والتابعين قوله تعالى : إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان [ المائدة : 90 ] .

والأرجاس : أنجاس إلا ما قامت الدلالة على طهارتها ، ولأنه مائع ورد الشرع بإراقته ، فوجب أن يكون نجسا كالسمن الذائب إذا وقعت فيه فأرة فأما الآية فتقتضي طهارة الخمر في الجنة ، وهذا مسلم ، وإنما الخلاف معه في طهارتها ونجاستها في الدنيا ، وغير منكر أن تكون في الدنيا نجسة ويقلب الله سبحانه وتعالى عينها في الآخرة ، ويغير حكمها ، فإذا ثبتت نجاسة الخمر بما ذكرناه فمتى أصابت الأرض فقد نجست فإن كشط الطبقة التي لاقاها الخمر فقد طهر المكان أيضا ، وإن زال ريحه وبقي لونه فالمكان نجس : لأن اللون عرض ، والعرض لا يقوم بنفسه ، فكان بقاؤه دليلا على بقاء عينه ، فلو ذهب لونه ، وبقي ريحه فإن كان ذلك لتقصير الغاسل لغسله ، ويعلم أنه إن أعيد غسله زالت الرائحة ، فالمكان نجس ، وإن كان بقاء الرائحة من غير تقصير في الغسل ففي طهارة المكان قولان منصوصان :

أحدهما : نجس ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : خلق الماء طهورا لا ينجسه إلا ما غير لونه ، أو طعمه ، أو ريحه فجعل الرائحة كاللون في التنجيس للماء ، كذلك رائحة الخمر كلونه في تنجيس الأرض به .

والقول الثاني : إن المكان طاهر مع بقاء الرائحة : لأن الخمر ذكي الريح ، فإذا جاوز أرضا تعدى ريحه لقوة ذكائه فيما جاوره واتصل به من غير حلول جزء من العين فيه : فصار ذلك كـ " الميتة " على حافة بئر طال مكثها ، وراح الماء بها لتعدي رائحتها ، فلما كان الماء طاهرا ، أو تغير ريحه ، لأن التغيير بمجاورة الميتة وتعدي الرائحة وجب أن يكون بقاء ريح الخمر لا يوجب تنجيس المحل ، وكان اللون مفارقا له ، لأن اللون لا يتعدى إلى ما جاوره ، والرائحة متعدية .

فأما الثوب إذا بقيت فيه رائحة الخمر فهو على نجاسته حتى تزول الرائحة عنه بخلاف الأرض : لأن حكم النجاسة فيها أخف لكونها معتدية للأنجاس ، ولأن رائحة الخمر لا تتعدى إلى الثوب إلا بحلول أجزاء الخمر فيه لبعده منه ، فشابه لون الخمر في الأرض ، فأما الإناء إذا بقيت فيه رائحة الخمر ، فلم تزل بالغسل فهو أخف حكما من الأرض ، فمن أصحابنا من قال : يطهر قولا واحدا : لأن بقاء الرائحة فيه لطول المكث وكثرة المجاورة ، ومنهم من قال : هو على قولين كالأرض سواء ، فأما النيل والحناء إذا بلا ببول ، وخضب به اليد أو ثوب ، ثم غسل فلم يبق إلا لونه فقد حكي عن الشافعي طهارته ، لأن اللون عرض ، والنجاسة لا تخالط العرض ، وإنما تخالط العين ، فإذا زالت العين التي هي محل النجاسة زالت النجاسة بزوال محلها .

[ ص: 261 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية