الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : ولا يقتل مؤمن بكافر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقتل مؤمن بكافر .

وإنه لا خلاف أنه لا يقتل بالمستأمن وهو في التحريم مثل المعاهد .

( قال المزني ) رحمه الله : فإذا لم يقتل بأحد الكافرين المحرمين لم يقتل بالآخر .

( قال الشافعي ) رحمه الله : قال قائل : عنى النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقتل مؤمن بكافر حربي فهل من بيان في مثل هذا يثبت ؟

قلت : نعم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرث المؤمن الكافر ولا الكافر المؤمن فهل تزعم أنه أراد أهل الحرب لأن دماءهم وأموالهم حلال ؟ قال : لا ولكنها على جميع الكافرين لأن اسم الكفر يلزمهم .

قلنا : وكذلك لا يقتل مؤمن بكافر لأن اسم الكفر يلزمهم فما الفرق ؟

قال قائل : روينا حديث ابن البيلماني قلنا منقطع وخطأ إنما روي فيما بلغنا أن عمرو بن أمية قتل كافرا كان له عهد إلى مدة ، وكان المقتول رسولا فقتله النبي - صلى الله عليه وسلم - به فلو كان ثابتا كنت قد خالفته ، وكان منسوخا لأنه قتل قبل الفتح بزمان ، وخطبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقتل مؤمن بكافر عام الفتح ، وهو خطأ لأن عمرو بن أمية عاش بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنت تأخذ العلم ممن بعد ليس لك به معرفة أصحابنا .

[ ص: 11 ] قال الماوردي : أما تكافؤ الأحكام بالحرية والإسلام فمعتبر عندنا فيقتص من الأدنى بالأعلى ولا يقتص من الأعلى بالأدنى ، وهو أن يقتل الكافر بالمسلم ، ولا يقتل المسلم بالكافر ، وسواء كان الكافر ذميا ، أو معاهدا ، أو حربيا ، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق .

وقال أبو حنيفة : يقتل المسلم بالذمي ، ولا يقتل بالمعاهد والحربي .

وقال الشعبي : يقتل المسلم بالكتابي ، ولا يقتل بالمجوسي .

واستدلوا بعموم قول الله تعالى : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس [ المائدة : 45 ] وبقوله : ولكم في القصاص حياة [ البقرة : 179 ] ورواية ابن البيلماني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل مسلما بكافر وقال : أنا أحق من وفى بذمته .

وبما روي أن عمرو بن أمية الضمري قتل مشركا ، فقتله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وروي أن أبا موسى الأشعري كتب إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يسأله عن مسلم قتل نصرانيا فكتب إليه عمر أن يقتاد منه .

ومن القياس : أن كل من قتل به الكافر جاز أن يقتل بالكافر كالكافر .

ولأن كل من قتل بأهل ملته جاز أن يقتل بغير أهل ملته كقتل اليهودي بالنصراني .

ولأن المسلم قد ساوى الذمي في حقن دمهما على التأبيد : فوجب أن يجري القصاص بينهما كالمسلمين .

ولأن حرمة نفس الذمي أغلظ من حرمة ماله وقد ثبت أن يد المسلم تقطع بسرقة ماله ، فكان أولى أن يقتص من يده بيده ، ولأن كافرا لو قتل كافرا ثم أسلم القاتل لم يمنع إسلامه من الاستيفاء للقود ، كذلك لا يمنع من وجوب القود ، ولأنه لما جاز للكافر قتل المسلم دفعا عن نفسه كان قتله قودا بنفسه : لأنهما في الحالين قتل مسلم بكافر .

ودليلنا قوله : لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة [ الحشر : 20 ] فكان نفي التساوي بينهما يمنع من تساوي نفوسهما ، وتكافؤ دمائهما ، فإن قيل : ليس يجوز أن يقطع على هذا المسلم بالجنة لجواز كفره ، ولا على الكافر بالنار لجواز إسلامه .

قيل : الحكم وارد في عموم الجنسين دون أعيان الأشخاص ، وقد قطع لأهل الإيمان بالجنة وأهل الكفر بالنار وقال تعالى : ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا [ ص: 12 ] [ النساء : 141 ] وهذا وإن كان بلفظ الخبر فالمراد به النهي : لأن الخبر لا يجوز أن يكون بخلاف مخبره ، وقد نرى للكافر سبيلا على المسلم بالتسلط واليد ، ونفي السبيل عنه يمنع من وجوب القصاص عليه .

فإن قيل : وهو محمول على أن لا سبيل له عليه في الحجة والبرهان ، فعنه جوابان :

أحدهما : أنه محمول على العموم اعتبارا بعموم اللفظ .

والثاني : أننا نعلم أنه لا سبيل له عليه بالحجة الدالة بهذه الآية فلم يجز حملها على ما هو معلوم بغيرها .

ويدل عليه من السنة وهو المعتمد في المسألة ما رواه أبو هريرة وعمران بن الحصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يقتل مؤمن بكافر .

وروى معقل بن يسار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده .

وروى قتادة عن الحسن عن قيس قال : انطلقت أنا والأشتر إلى علي بن أبي طالب رضوان الله عليه فقلنا له : هل عهد إليك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا لم يعهده إلى الناس عامة ؟ فقال : لا إلا ما في هذا الكتاب وأخرج كتابا من قراب سيفه فإذا فيه المسلمون تتكافأ دماؤهم ، وهم يد على من سواهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ألا لا يقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده .

وروى حماد عن جابر عن الشعبي عن علي بن الحسين قال : أخرج أبي سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا فيه : العقل على المؤمنين عامة ولا يترك مفرج في الإسلام ، ولا يقتل مسلم بكافر .

والمفرج الذي لا يكون له قبيلة ينضم إليها فأمر أن يضم إلى قبيلة يضاف إليها حتى لا يكون مفردا .

فدلت هذه النصوص كلها على أن لا يقتل مسلم بكافر .

فإن قالوا المراد بقوله لا يقتل مؤمن بكافر أي بكافر حربي : لأنه قال : ولا ذو عهد في عهده وذو العهد يقتل بالمعاهد ، ولا يقتل بالحربي : ليكون حكم العطف موافقا لحكم المعطوف عليه فعنه جوابان :

[ ص: 13 ] أحدهما : أن قوله : لا يقتل مؤمن بكافر يقتضي عموم الكفار من المعاهدين وأهل الحرب فوجب حمله على عمومه ولم يجز تخصيصه بإضمار وتأويل ، وقوله : ولا ذو عهد في عهده كلام مبتدأ أي : لا يقتل ذو العهد لأجل عهده ، وأن العهد من قبله حقنا لدماء ذوي العهود .

والجواب الثاني : أن قوله لا يقتل مؤمن بكافر محمول على العموم في كل كافر من معاهد وحربي .

ولا ذو عهد في عهده محمول على الخصوص في أنه لا يقتل بالحربي ، وإن قتل بالمعاهد لأنه ليس تخصيص أحد المذكورين موجبا لتخصيص الآخر .

ويدل على ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لو كنت قاتلا مسلما بكافر لقتلت خراشا بالهذلي ولو جاز قتله ببعض الكفار دون بعض قتله ولم يطلقه ، ويدل عليه من طريق الاعتبار أن المسلم لما لم يقتل بالمستأمن ، لم يقتل بالذمي . وللجمع بينهما ثلاث علل :

إحداهن : أنه منقوض بالكفر : فوجب إذا قتله مسلم أن لا يقاد به كالمستأمن .

والعلة الثانية : أن من لم يمنع دينه من استرقاقه لم يقتل به من منع دينه من استرقاقه كالمستأمن .

فإن قيل : هذا منتقض بالكافر إذا قتل كافرا ثم أسلم القاتل فإنه يقتل به ، وإن كان مسلما فعنه جوابان :

أحدهما : أن في شرط العلة إذا قتله مسلم ، وهذا قتله وهو كافر ، فلم تنتقض به العلة .

والثاني : أن التعليل للجنس فلا تنتقض إلا بمثله .

فإن قيل : المستأمن ناقص الحرمة ؟ لأن دمه محقون إلى مدة بخلاف الذمي فإنه تام الحرمة ، محقون الدم على التأبيد ، فأشبه المسلم ، فعنه جوابان :

أحدهما : أن اختلاف الحرمتين في المدة لا يمنع من تساويهما في الحكم مع بقاء المدة ، ألا ترى أن تحريم الأجنبية مؤقت ، وتحريم ذات المحرم مؤبد ، وقد استويا في وجوب الحد في الزنا كذلك هاهنا .

والثاني : أن للنفس بدلين القود والدية ، فلما لم يمنع اختلافهما في الحرمة من تساويهما في الدية لم يمنع من تساويهما في القود : ولأن حد القذف يجب بهتك حرمة [ ص: 14 ] العرض ، والقود يجب بهتك حرمة النفس ، فلما سقط عن المسلم حد قذفه كان أولى أن يسقط عنه القود في نفسه : لأن أخذ النفس أغلظ من استيفاء الحد .

فأما الجواب عن قوله تعالى : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس [ المائدة : 45 ] فمن وجهين :

أحدهما : أنه عائد إلى بني إسرائيل وكانوا أكفاء فلم يجز حكمهم على غير الأكفاء .

والثاني : أنه عموم خص بدليل .

فأما قوله تعالى : ولكم في القصاص حياة [ البقرة : 179 ] فهو قصاص لهم فلم يجز أن يفعل قصاصا عليهم .

وأما حديث عبد الرحمن بن البيلماني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل مسلما بكافر فهو حديث ضعيف لا يثبته أصحاب الحديث ، ثم مرسل : لأن ابن البيلماني ليس بصحابي ، والمراسيل عندنا ليست بحجة ، ولو سلم الاحتجاج به لما كان فيه دليل : لأنها قضية في عين لا تجري على العموم .

وقد يجوز أن يكون القاتل أسلم بعد قتله فقتله به ، وإذا احتمل هذا وجب التوقف عن الاحتجاج .

وأما حديث عمرو بن أمية الضمري فقد أجاب الشافعي عنه بثلاثة أجوبة :

أحدها : أن طريقه ضعيف ورواته مجهولون .

والثاني : أن عمرو بن أمية الضمري عاش بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومات في زمن معاوية : فاستحال ما أضيف إليه .

ولهذا قال الشافعي : وأنت تأخذ العلم ، ممن بعد ، ليس لك به معرفة أصحابنا ، يعني أهل الحرمين : لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان بينهم فكانوا بأقواله وأصحابه أعرف .

والثالث : أن في روايتهم أنه قتله رسول مستأمن ، وعندهم أن المسلم لا يقتل بالمستأمن ، فلم يكن لهم فيه دليل .

وأما حديث عمر فقد روي أن معاذ بن جبل أنكر عليه .

وروى له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لا يقتل مؤمن بكافر وأن زيد بن ثابت قال له : لا تقتل أخاك بعبدك . فرجع عنه ، وكتب إلى أبي موسى أن لا تقتله به ، فصار ذلك إجماعا .

وأما قياسهم على المسلم فالمعنى فيه أنه حقن دمه بدينه وأن دينه يمنع من استرقاقه فخالف الكافر .

[ ص: 15 ] وأما قياسهم على قتل اليهودي بالنصراني فلا يصح ، لأن الكفر كله عندنا ملة واحدة ، وإن تنوع ، فلذلك جرى القود بينهما ، وملة الإسلام مخالفة لهما ومفضلة عليهما .

وقولهم : إن حرمة النفس أغلظ من حرمة المال ، والمسلم يقطع في مال الكافر فكان أولى أن يقتل بنفس الكافر .

فالجواب عنه من وجهين :

أحدهما : أن القطع في السرقة حق الله تعالى لا يجوز العفو عنه فجاز أن يستحق في مال الكافر كما يستحق في مال المسلم ، والقود من حقوق الآدميين لجواز العفو عنه فلم يستحقه كافر على مسلم .

والثاني : أنه لما جاز قطع المسلم بسرقة مال المستأمن ، ولم يقتل به ، جاز أن يقطع في مال الذمي ، وإن لم يعتد به .

وقياسهم على الكافر فالمعنى فيه تساويهما في الدين .

وقولهم : إنه يقتل به لو أسلم بعد قتله فكذلك إذا كان مسلما قبل قتله لا وجه له لأن القود حد ، والحدود تعتبر بحال الوجوب ، ولا تعتبر بما بعده : لأن مجنونا لو قتل ثم عقل لم يجب عليه القود ، ولو كان عاقلا وقت القتل ثم جن وجب عليه القود ، وقد ذهب الأوزاعي إلى أنه لا يقتل به الكافر إذا أسلم تمسكا بظاهر قوله لا يقتل مؤمن بكافر وإن خالفناه فيه بالمعنى الذي قدمناه .

وقولهم : لما جاز أن يقتله دفعا ، جاز أن يقتله قودا ، فيفسر من وجهين :

أحدهما : أن المستأمن يجوز له قتل المسلم دفعا ولا يجوز أن يقتل به قودا .

والثاني : بالمال يجوز أن يقتل المسلم بدفعه عنه ولا يقتل ما بدفعه عليه .

وفيما تتجافاه النفوس من قتل المسلم بالكافر ما يمنع من القول به ، والعمل عليه .

حكى يحيى بن زكريا الساجي عن موسى بن إسحاق الأنصاري عن علي بن عمرو الأنصاري أنه رفع إلى أبي يوسف القاضي مسلم قتل كافرا فحكم عليه بالقود ، فأتاه رجل برقعة ألقاها إليه من شاعر بغدادي يكنى أبا المضرجي فيها مكتوب :


يا قاتل المسلم بالكافر جرت وما العادل كالجائر     يا من ببغداد وأطرافها
من فقهاء الناس أو شاعر     جار على الدين أبو يوسف
إذ يقتل المسلم بالكافر     فاسترجعوا وابكوا على دينكم
واصطبروا فالأجر للصابر

[ ص: 16 ] فأخذ أبو يوسف الرقعة ، ودخل على الرشيد ، فأخبره بالحال ، وقرأ عليه الرقعة ، فقال له الرشيد : تدارك هذا الأمر بحيلة لئلا يكون منه فتنة .

فخرج أبو يوسف وطالب أولياء المقتول بالبينة على صحة الذمة ، وأداء الجزية فلم يأتوا بها فأسقط القود وحكم بالدية ، وهذا إذا كان مفضيا إلى استنكار النفوس وانتشار الفتن كان العدول عنه أحق وأصوب .

التالي السابق


الخدمات العلمية