الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي - رحمه الله - : ولا يقتل والد بولد لأنه إجماع ولا جد من قبل أم ولا أب بولد ولد وإن بعد لأنه والد ( قال المزني ) رحمه الله : هذا يؤكد ميراث الجد لأن الأخ يقتل بأخيه ، ولا يقتل الجد بابن ابنه ، ويملك الأخ أخاه في قوله ، ولا يملك جده وفي هذا دليل على أن الجد كالأب في حجب الإخوة وليس كالأخ .

قال الماوردي : ولا يقتل والد ولا والدة ولا جد ولا جدة بولد ولا بولد ولد وإن سفل ، سواء قتله ذبحا أو حذفا وقال مالك : إن ذبحه غيلة قتل به وإن حذفه بسيف فقتله لم يقتل به ، استدلالا بعموم الكتاب والسنة ، ولأن تساويهما في الإسلام والحرية يوجب تساويهما في القود كالأجانب ولأنه لما قتل الولد بالوالد جاز قتل الوالد بالولد . ودليلنا ما روى قتادة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تقام الحدود في المساجد ، ولا يقاد بالولد الوالد .

وروى محمد بن عجلان عن عمرو بن شعيب عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رجلا من بني مدلج أولد جارية فأصاب منها ابنا ، وكان يستخدمها ، فلما شب الغلام قال : إلى متى تستأمي أمي - أي : تستخدمها خدمة الإماء - فغضب فحذفه بسيف أصاب رجله فقطعها ، ومات فانطلق في رهط إلى عمر - رضي الله عنه - فقال : يا عدو نفسه أنت الذي قتلت ابنك لولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا يقاد الأب من ابنه لقتلتك هلم ديته ، قال : فأتاه بعشرين ومائة بعير قال فخير منها مائة فدفعها إلى ورثته ، وترك أباه فإن قيل : إنما أسقط عنه القود للحذف ودخول الشبهة فيه بما جعل له من تأديبه ، وهذا المعنى مفقود في ذبحه غيلة .

[ ص: 23 ] قيل : هذا فاسد من وجهين : أنه ليس في عرف التأديب حذفه بالسيف فلم يجز حمله عليه .

والثاني : أنه لو جاز لما استحقه من تأديبه أن لا يقال لحذفه يسقط به القود عن كل مستحق للتأديب من وال وحاكم ، وهم يقادون به مع استحقاقهم للتأديب فكذلك الأب ، ولأنه لا يخلو سقوط القود عن الأب في الحذف أن يكون لشبهة في الفعل ، أو في الفاعل ، فلم يجز أن يكون لشبهة في الفعل : لأنه لا يكون شبهة فيه مع غير الولد فثبت أنه لشبهة في الفاعل وهو الأبوة فوجب أن يسقط عنه القود مع اختلاف أحواله ، ولأن الولد بعض أبيه ، ولا قود على الإنسان فيما جناه على نفسه كذلك لا قود عليه في ولده لأنه بعض نفسه .

واستدلاله بالظواهر مخصوص وقياسه على الأجانب ممنوع بما ذكرناه من البعضية واعتباره بقتل الولد بالوالد فاسد لتسويته في الولد بين الذبح والحذف ، وفرقه في الأب بين الذبح والحذف ، وأنه يحد الولد بقذف الوالد ، ولا يحد الوالد بقذف الولد ، وهذا انفصال ودليل .

فإن قيل : فكيف قال الشافعي فيما خالف فيه مالك : لأنه إجماع ؟ وكيف ينعقد الإجماع مع خلاف مثله ؟ فعنه جوابان :

أحدهما : أنه أراد به الصحابة لأنه قول عمر رضي الله تعالى عنه ولم يخالف أحدهم .

والثاني : أنه قتله حذفا إجماع لا يعرف فيه خلاف فكان الذبح بمثابته .

فأما المزني فإنه لما رأى الشافعي يقول : إن الجد كالأب في أنه لا يقتل بولد ولده قال : يجب أن يكون الجد كالأب في حجب الإخوة عن الميراث .

قيل : إنما قال : إن الجد كالأب لأجل الولادة ولا يقتضي أن يحجب به الإخوة ، كما تجعل الأم وأباها كالأب في سقوط القود ، ولا تجعلها كالأب في حجب الإخوة .

فصل : فإذا ثبت أن لا قود على الأبوين ومن علا من الأجداد والجدات من ورث منهم أو لم يرث فسواء كان الوالد القاتل حرا أو عبدا مسلما أو كافرا ، ويعزر لإقدامه على معصية ، وعليه الدية والكفارة في ماله ، ولا ميراث له منه : لأن القاتل لا يرث .

التالي السابق


الخدمات العلمية