الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا ثبت في القتل بالمثقل قودا فالمثقل ينقسم ثمانية أقسام :

أحدها : قتل مثله في الأغلب كالصخرة الثقيلة والخشبة الكبيرة ، ويقتل في أي موضع وقعت عليه من الجسد وعلى من وقعت عليه من جميع الناس ، فالقود واجب .

والقسم الثاني : ما لا يقتل مثله في الغالب كالحصاة مثل النواة والخشبة مثل القلم [ ص: 38 ] لا يقتل في أي موقع وقعت عليه من الجسد ، ولا على من وقعت عليه من جميع الناس فلا قود فيه ولا دية .

والقسم الثالث : ما يجوز أن يقتل مثله ، ويجوز أن لا يقتل مثله ، وهو ما توسط بين الأمرين فلا قود ، وفيه الدية مغلظة ، وهو المراد بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ألا إن في قتيل العمد والخطأ بالسوط والعصا مائة من الإبل مغلظة منها أربعون خلفة في بطونها أولادها .

والقسم الرابع : ما يقتل إذا ردد ، ولا يقتل إذا أفرد كالسوط والعصا فإن ردده وجب فيه القود ، وإن لم يردده وجب فيه الدية دون القود .

والقسم الخامس : ما يقتل الصغير والمريض ويجوز أن لا يقتل الكبير والصحيح ، فيراعى المقتول به فإن كان صغيرا أو مريضا وجب فيه القود ، وإن كان كبيرا صحيحا ففيه الدية دون القود .

والقسم السادس : ما يقتل إذا وقع في المواضع القاتلة ولا يقتل إذا وقع في غيرها فيراعى موضع وقوعها ، فإن كان في مقتل ، وجب فيه القود ، وإن كان في غير مقتل وجبت فيه الدية دون القود .

والقسم السابع : ما يقتل بقوة الضارب ولا يقتل مع ضعفه ، فيراعى حال الضارب ، فإن كان قويا وجب عليه القود .

وإن كان ضعيفا وجب عليه الدية دون القود .

والقسم الثامن : ما يقتل في شدة الحر والبرد ، ولا يقتل مع سكونهما ، فيراعى وقت الضرب ، فإن كان في شدة الحر والبرد وجب فيه القود ، وإن كان مع سكونهما وجب فيه الدية دون القود .

وجملته أن يراعى حال الضارب والمضروب ، وما وقع به الضرب ليفصل لك بها أحكام هذه الأقسام .

فصل ثان :

وأما الخنق فعلى ضربين :

أحدهما : بآلة وهو أن يربط حلقه بحبل حتى يختنق فيمنع النفس ففيه القود : لأنه ربما كان أوجى من السيف ، وسواء علقه بحبل أو أرسله فإن عفا عنه صح العفو ، وسقط القود ، وسواء تكرر منه الخنق أو لم يتكرر .

وقال أبو يوسف : إن تكرر منه الخنق لم يصح العفو عنه ، وتحتم عليه القتل كالمحارب : لأنه قد صار ساعيا في الأرض بالفساد وهذا فاسد من وجهين :

[ ص: 39 ] أحدهما : أنه لو انحتم قتل من تكرر منه الخنق لانحتم قتل من تكرر منه القتل بالسيف وهو غير منحتم ، وإن تكرر ، وكذلك الخنق .

والثاني : أنه لو صار في انحتام قتله كالمحارب لما اعتبر تكرار منه كما لم يعتبر في المحارب .

والضرب الثاني : أن يخنقه بغير آلة مثل أن يمسك حلقه بيده حتى يمنع نفسه ولا يرفعها عنه حتى يموت فهذا على ضربين :

أحدهما : أن يقدر المخنوق على خلاص نفسه لفضل قوته على قوة الخانق فهذا هو قاتل نفسه ، ولا قود له وفي وجوب الدية قولان ممن أمر غيره بقتله .

فإن قيل : فمن أريدت نفسه فلم يدفع عنها حتى قتل لم يسقط عن قاتله القود فهلا كان حال هذا المخنوق كذلك .

قلنا : لأن سبب القتل في المخنوق موجود ، فكان تركه إبراء وسببه في الطالب غير موجود ، فلم يكن في الإمساك قبل حدوث السبب إبراء .

والضرب الثاني : أن لا يقدر على خلاص نفسه لفضل الخانق على قوته فعليه القود فلو رفع الخانق يده ، أو حل خناقه ، وفي المخنوق حياة ثم مات ، فهذا على ضربين :

أحدهما : أن يكون نفسه ضعيفا كالأنين والشهيق فعليه القود ، ويكون بقاء هذا النفس كبقاء حركة المذبوح .

والضرب الثاني : أن يكون نفسه قويا فهذا على ضربين :

أحدهما : أن يقرب موته من حل خناقه فعليه القود لدنوه من سبب القتل .

والضرب الثاني : أن يتأخر موته عن حل خناقه فهذا على ضربين :

أحدهما : أن يكون ضمينا مريضا من وقت خناقه إلى حين موته فعليه القود ، لأن استدامة مرضه دليل على سراية خناقه .

والضرب الثاني : أن يكون بعد خناقه على معهود صحته ثم يموت ، فلا قود عليه ولا دية ، كما لو جرح فاندمل جرحه ، ثم مات .

وهكذا لو وضع على نفسه ثوبا أو وسادة ، وجلس عليها ، ولم يرسله حتى مات ، وجب عليه القود إذا لم يمكن دفعه فإن أرسله ونفسه باق فهو كالمخنوق بعد حل خناقه .

فإن لطمه فمات من لطمته هذا على ثلاثة أقسام :

[ ص: 40 ] أحدها : أن يكون مثلها قاتلا في الغالب لقوة اللاطم وضعف الملطوم ، فيجب عليه القود .

والقسم الثاني : أن لا يقتل مثلها في الغالب لضعف اللاطم ، وقوة الملطوم ، فلا قود فيه ولا دية .

والقسم الثالث : أن يقتل مثلها ، ولا يقتل لقوة اللاطم وقوة الملطوم ، فلا قود عليه وفيه الدية .

فصل ثالث : وأما إذا طين عليه بيتا حبسه فيه حتى مات فهذا على ضربين :

أحدهما : أن يمكنه من الطعام والشراب ، ولا يمنعه منهما ، فلا قود عليه ولا دية ، سواء كان المحبوس كبيرا أو صغيرا ، ما لم يكن طفلا لا يهتدي بنفسه إلى الأكل والشرب فيلزمه فيه القود .

وقال أبو حنيفة : يضمن الصغير وإن كان يهتدي إلى الأكل والشرب إذا اقترن موته بسبب ذلك ، وإن كان من غير جهته كنهشة حية ، ولدغة عقرب لم يضمنه وهذا فاسد : لأن الحر لا يضمن باليد ولو ضمن بها كالمملوك للزم ضمانه في موته بسبب وغير سبب .

والضرب الثاني : أن يمنعه في حبسه من الطعام والشراب فلا يخلو حاله من أربعة أقسام :

أحدها : أن تطول مدة حبسه حتى لا يعيش في مثلها حي بغير طعام ولا شراب ، وليس لأقله حد ، وإن حده الطب باثنتين وسبعين ساعة متصلة الليل والنهار ، لما روي أن عبد الله بن الزبير واصل الصيام سبعة عشر يوما ثم أفطر على سمن ولبن وصبر ، وذهب في السمن إلى أنه يفتق الأمعاء ويلينها ، وفي اللبن إلى أنه ألطف غذاء ، وفي الصبر إلى أنه يشد الأعضاء ، فإذا مات مع طول المدة ، وجب فيه القود : لأنه قتل عمد .

والقسم الثاني : أن تقصر مدة حبسه عن موت مثله بغير طعام ولا شراب كاليوم الواحد وما دونه : لأن الله تعالى قد أوجب إمساكه في الصوم ، ولو كان قاتلا ما أوجبه : فهذا لا قود فيه ولا دية .

والقسم الثالث : أن تكون مدة يجوز أن يموت في مثلها ويعيش فلا قود ، وفيه الدية لأنه عمد كالخطأ .

والقسم الرابع : أن يكون في مدة يموت في مثلها الصغير والمريض ، ولا يموت في مثلها الكبير الصحيح فيراعى حال المحبوس ، فإن كان صغيرا أو مريضا وجب فيه القود ، وإن كان كبيرا صحيحا لم يجب وهكذا الحكم لو منعه الطعام دون الشراب ، أو [ ص: 41 ] منعه الشراب دون الطعام : لأن النفوس لا تحيا إلا بهما إلا أن الصبر عن الطعام إذا وجد شرابا أمد زمانا من الصبر عن الشراب إذا وجد الطعام .

روي أن أبا ذر - رضي الله عنه - لما أراد الإسلام اختفى من المشركين تحت أستار الكعبة بضعة عشرة يوما ، فكان يخرج في الليل من بين الأستار فيشرب ماء زمزم ، قال : فسمنت حتى تكسرت عكن بطني ، فأخبرت بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إنها طعام طعم وشفاء سقم فبان أن الماء يمسك الرمق فيراعى حكم كل واحد منهما إذا انفرد بالعرف المعهود في الأغلب .

فصل رابع : إذا ألقاه في نار مؤججة أو ألقى عليه نارا أججها فهذا على ضربين :

أحدهما : أن لا يقدر على الخروج منها حتى يموت فيها ، وذلك لإحدى خمسة أحوال :

إما أن يلقيه في حفرة قد أججها .

وإما أن يربطه فلا يقدر مع الرباط على الخروج منها .

وإما أن يطول مدى النار فلا ينتهي إلى الخروج منها .

وإما أن يقف في طرفها فيمنعه من الخروج .

وإما أن تثبط بدنه فيعجز عن النهوض فيها ، فهذا قاتل عمدا ، وهو أشد القتل عذابا ، ولذلك عذب الله تعالى بالنار من عصاه ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تعذبوا عباد الله بعذاب الله فعليه القود .

والضرب الثاني : أن يقدر على الخروج منها فهذان على ضربين :

أحدهما : أن لا يخرج مع القدرة على الخروج حتى يموت فلا قود عليه ، وفي الدية قولان فمن أذن لغيره في قتله ، أحدهما عليه الدية كما لو قدر على مداواة جرحه فامتنع من الدواء حتى مات وجبت الدية .

والقول الثاني : لا دية ، وعليه أرش ما لفحته النار عند إلقائه فيها : لأن التلف باستدامة النار ، والتي ينسب استدامتها فيه دون ملقيه ، وخالف تركه لدواء الجرح ، لأنه لم ينسب إلى زيادة عليه .

والضرب الثاني : أن يخرج منها حيا ثم يموت بعد الخروج ، فهذا على ضربين :

أحدهما : أن يكون تثبيط بدنه باقيا فعليه القود كالجرح إذا مات منه قبل أن يندمل .

[ ص: 42 ] والضرب الثاني : أن يبرأ من التثبيط فلا قود فيه كالجرح إذا مات بعد اندماله وعليه أرش ما لفحته النار وتثبيط جسده .

فصل خامس : إذا ألقاه في الماء فغرق فيه فهذا على ضربين :

أحدهما : أن يلقيه في لجة بحر يبعد ساحله ، فهذا قاتل عمد وعليه القود ، سواء كان يحسن العوم أو لا يحسن لأنه بالعوم لا يصل إلى الساحل مع بعده ، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : البحر نار في نار فشبهه بالنار لإتلافه .

وأغزى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه جيشا في البحر ، وأمر عليهم عمرو بن العاص ، فلما عاد سأله عن أحوالهم فقال : دود على عود ، بين غرق أو فرق فآلا على نفسه أن لا يغزي في البحر أحدا .

والضرب الثاني : أن يلقيه في نهر أو بحر يقرب من الساحل فهذا على ضربين :

أحدهما : أن يربطه أو يثقله حتى لا يقدر على الخلاص من الماء غريق فعليه القود أيضا ، كالملقى في لجة البحر .

والضرب الثاني : أن يكون مطلقا غير مربوط ولا مثقل فهذا على ضربين :

أحدهما : أن لا يحسن العوم فعليه القود أيضا لأنه لا يقدر على الخلاص .

والضرب الثاني : أن يحسن العوم فلا يعوم فلا قود فيه ، لأنه قدر على خلاص نفسه ، فصار متلفا لها .

واختلف أصحابنا في وجوب الدية فخرجها بعضهم على قولين كالملقى في النار إذا قدر على الخروج منها ، ومنع الباقون من وجوبها ، قولا واحدا ، وفرقوا بين الماء والنار بأن الإلقاء في النار جناية متلفة لا يقدم الناس عليها مختارين وليس الإلقاء في الماء لمن يحسن العوم جناية عليه : لأن الناس قد يعومون فيه مختارين لتبرد أو تنظف ، فلا ينسبون إلى تغرير .

فلو ألقاه في الماء فالتقمه الحوت فهذا على ضربين :

أحدهما : أن يكون الإلقاء في ذلك الماء غير موجب للقود على ما فصلنا فلا قود فيه إذا التقمه الحوت : لأنه تلف من غيره عليه ، وعليه الدية لأنه سبب من جهته أفضى إلى تلفه .

[ ص: 43 ] والضرب الثاني : أن يكون الإلقاء في ذلك الماء موجبا للقود فالتقمه الحوت قبل التلف ، ففي وجوب القود قولان :

أحدهما : وهو ظاهر منصوص الشافعي : عليه القود لأنه لو لم يلتقمه الحوت لوجب فلم يسقط بالتقامه .

والقول الثاني : حكاه الربيع أنه لا قود عليه لأن مباشرة تلفه حصلت بغير فعله وتلزمه الدية .

ومن أصحابنا من حمل القولين على اختلاف حالين فالقول الذي أوجب فيه القود محمول على نيل مصر الذي يغلب عليه التماسيح فلا يسلم منها أحد ، والقول الذي أسقط فيه القود محمول على غيره من البحار والأنهار التي تخلو غالبا من مثله .

التالي السابق


الخدمات العلمية