الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا ثبت أن الجناية مضمونة بالأمرين ، وإن سقط حكم السراية في الأمرين ، لم يخل حال الجناية من أحد أمرين .

إما أن يكون في مثلها قصاص أو لا يكون .

فإن لم يكن في مثلها قصاص كالجائفة وجب أرشها ، وكان لبيت المال دون الورثة : لأن المرتد لا يورث ، ولم يجز العفو عن الأرش : لأنه لكافة المسلمين .

وإن كان في مثلها قصاص كقطع يد أو رجل وجب فيه القصاص . وفي مستحق استيفائه وجهان :

أحدهما : وهو مذهب المزني ، وابن أبي هريرة وأكثر أصحابنا : أنه للإمام : لأن القصاص موروث كالمال ، ومال المرتد لبيت المال دون ورثته ، فتولى الإمام كما [ ص: 58 ] يتولى أخذ أرشه ويكون معنى قول الشافعي : كان لوليه المسلم أن يقتص بالجرح - إشارة إلى الإمام : لأنه ولي من لا ولي له .

والوجه الثاني : أن مستحق القصاص ومستوفيه أولياؤه المسلمون ، وإن لم يرثوه ، لأن القصاص موضوع للتشفي ودفع الاستطالة فاختص به الأولياء دون غيرهم ، فعلى هذا يكون بالخيار بين أن يقتصوا أو يعفوا عن القصاص إلى الأرش ، ولا يصح عفوهم عن الأمرين : لأنهم ملكوا القصاص ولم يملكوا الأرش فصح عفوهم عما ملكوه من القصاص ولم يصح عفوهم عما لم يملكوه من الأرش : فإن سقط القصاص بعفوهم أو بعفو الإمام إن كان هو المستوفي له على الوجه الأول تعين استحقاق الأرش ، ولم يصح عفو الإمام عنه كما لا يصح عفو الأولياء : لأنه مستحق لكافة المسلمين .

وإذا كان كذلك لم يخل حال الأرش من ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يكون أقل من دية النفس كقطع إحدى اليدين ، فيها نصف الدية فيوجبها ويسقط ما زاد عليها بالسراية .

والقسم الثاني : أن يكون مثل دية النفس كقطع اليدين ، فيهما كمال الدية فيوجب الدية الكاملة ، لأنه لم يكن للسراية تأثير في الزيادة .

والقسم الثالث : أن تكون أكثر من دية النفس كقطع اليدين ، وجدع الأنف ، ومن حكم ذلك في المسلم أنها إذا اندملت وجب فيها ديتان ، وإن سرت إلى النفس وجب فيها دية واحدة : لأنها صارت نفسا فلم تزد على دية النفس ، فأما إذا سرت إلى النفس في حال الردة فقد اختلف أصحابنا فيها على وجهين :

أحدهما : وهو قول الأكثرين أنه يغلب حكم السراية في الدية على حكم الجناية ، فلا يجب فيها أكثر من دية : لأنها قد صارت نفسا فتصير الجناية مضمونة بأقل الأمرين من أرشها أو دية النفس .

والوجه الثاني : وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنها تضمن بما بلغ من أرشها وإن زاد على دية النفس أضعافا لأمرين :

أحدهما : أن سقوط القود في النفس يجري على الجرح حكم الاندمال .

والثاني : أنه لما سقط حكم السراية إذا نقص أرش الجرح عن دية النفس سقط حكم السراية إذا زاد الأرش على دية النفس ، وتصير الجناية مضمونة بمبلغ أرشها في الزيادة والنقصان ، ورد أصحابنا عليه هذا الاستدلال بأن حرمة نفسه لو استدام الإسلام أغلظ من حرمتها إذا ارتد ، فلا يجب فيه مع استدامة إسلامه أكثر من الدية فلأن لا يجب فيها مع الردة أكثر من الدية أولى وأشبه والله أعلم .

[ ص: 59 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية