الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فأما أبو حنيفة فقد وافق في وجوب القود على الإمام الآمر ردا على أبي يوسف ، وأسقط القود عن المأمور المكره ، وسلبه حكم المباشرة ، فلم يوجب عليه دية ولا كفارة ، وهذا أحد قولي الشافعي في سقوط القود .

وموجب تعليل البصريين في سقوط الدية والكفارة ، ومخالف لتعليل البغداديين في وجوب نصف الدية والكفارة مع سقوط القود ، وهو مخالف للقول الثاني للشافعي في جميع أحكامه ، لأنه يجري عليه حكم الإمام الآمر في وجوب القود والدية والكفارة ، وأبو حنيفة يسلبه بالإكراه جميع أحكام الإمام استدلالا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ولأنه قتله لإحياء نفسه ، فوجب أن يسقط عنه القود كالمقتول دفعا عن نفسه ، ولأن ما أوجب القتل بفعل المختار سقط فيه القتل بفعل المكره كالزنا ، ولأن الإكراه قد نقل حكم المباشرة إلى الآمر ، فوجب أن يزول حكمها عن المأمور ، لأن الفعل واحد ، ويصير المأمور فيه كالآلة أو كالسبع المرسل والكلب الشلاء ، ولأن الإكراه يتنوع نوعين : إكراه حكم ، وإكراه قهر ، ثم ثبت أن إكراه الحكم وهو إلجاء الحاكم إلى القتل بشهادة الزور يمنع من وجوب القتل عليه مع أمنه على نفسه ، فكان إكراه القهر أولى أن يمنع من وجوب القود مع خوفه على نفسه ، ولأن الإكراه يكون تارة على القول بأن يتلفظ بكلمة الكفر ، وتارة على القتل بأن يؤمر بالقتل ، ثم ثبت أن حكم الكفر يزول بالإكراه فوجب أن يكون حكم القتل يزول بالإكراه .

ودليلنا عموم قول الله تعالى ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا [ الإسراء : 33 ] ولأنه عمد ، قتله ظلما لإحياء نفسه ، فلم يمنع إحياؤه لها من قتله قودا ، قياسا على المفطر إذا أكل من الجوع محظور النفس ، ثم هذا أولى بالقتل من المضطر ، لأن المضطر على يقين من التلف إن لم يأكل ، وليس المأمور على يقين من القتل إن لم يقتل ، وعلى أن الأصول تشهد لصحة هذا التعليل ، ألا ترى أن ركاب السفينة إذا خافوا الغرق من ثقلها فألقوا بعضهم في البحر ليسلم باقيهم لزمهم القود ، ولو صادفهم سبع خافوا على أنفسهم فألقوا عليه أحدهم ليتشاغل به عنهم وجب عليهم القود ، كذلك المكره المفتدي نفسه بغيره ، ولأنه لا عذر له في إحياء نفسه بقتل غيره : لأن حرمة غيره مثل حرمة نفسه ، فلم يكن إحياء نفسه بالغير أولى من إحياء الغير بنفسه فاستويا ، وصار وجود العذر كعدمه ، فاقتضى أن يجب القود بينهما كوجوبه لو لم يكن مكرها .

[ ص: 75 ] فأما الخبر فمحمول على ما اختص بحقوق الله تعالى دون حقوق الآدميين ، وقياسهم على قتله دفعا عن نفسه منتقض بأكله من الجوع . ثم المعنى في المدفوع أنه قد أباح نفسه بالطلب فصار مقتولا بحق ، وهذا مقتول بظلم ، فافترقا .

وقياسهم على الإكراه اختلف أصحابنا في صحة الإكراه عليه ، فذهب بعضهم إلى استحالته لأن إيلاج الذكر لا يكون إلا مع انتشاره ، وانتشار الذكر ، وإنزال مائه لا يكون إلا مع قوة الشهوة المنافية للإكراه فاستحال فيه الإكراه .

وذهب آخرون منهم إلى صحة الإكراه فيه لأن انتشار الذكر قد يكون من الطبع المحرك الذي لا يقدر على دفعه عن نفسه ، وهو مؤاخذ بفعل نفسه لا بما ركبه الله تعالى في طبعه ، فعلى هذا يكون المعنى في سقوط الحد بالإكراه اختصاصه بحقوق الله تعالى ، والقتل بحقوق الآدميين ، فافترقا وقولهم : إن الإكراه قد نقل حكم المباشرة عن المأمور إلى الآمر فليس بصحيح ، بل تعدى عن المأمور إلى الآمر ، والفعل إذا تعدى حكمه إلى غير الفاعل كان أولى أن يؤاخذ به الفاعل ، لأن تعديه لفضل قوته .

وجمعهم بين المكره والحاكم إلجاء غير صحيح ، لأن من قتله الحاكم بالشهادة قد كان واجبا عليه لا يسوغ له تركه فلم يؤاخذ بالقود ، ومن قتله المكره مظلوم ، والقاتل فيه مأثوم فوجب القود عليه ، لأنهما لما افترقا في جواز القتل افترقا في وجوب القود .

التالي السابق


الخدمات العلمية