الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : ولا يقتل إلا باجتماعهم ويحبس القاتل حتى يحضر الغائب ويبلغ الطفل وإن كان فيهم معتوه فحتى يفيق أو يموت فيقوم وارثه مقامه .

قال الماوردي : أما إذا كان ورثة القتيل أهل رشد لا ولاية على واحد منهم ، فليس لبعضهم أن ينفرد بالقود دون شركائه ، وعليه أن يستأذن من حضر وينتظر من غاب ، وهذا متفق عليه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا العقل فأما إن كان فيهم مولى عليه لعدم رشده بجنون أو صغر فقد اختلف فيه الفقهاء .

فذهب الشافعي إلى أن القود موقوف لا يجوز أن ينفرد به الرشيد حتى يبلغ الصغير ويفيق المجنون ، ويجتمعون على استيفائه ، ولا يجوز لولي الصغير أن ينوب عنه في الاستيفاء .

وقال أبو حنيفة ومالك : يجوز للرشيد منهم أن ينفرد باستيفاء القود ولا ينتظر بلوغ الصغير وإفاقة المجنون ، ولو كان مستحقه صغيرا أو مجنونا جاز لوليه أن ينوب عنه في استيفائه استدلالا بقول الله تعالى فقد جعلنا لوليه سلطانا [ الإسراء : 33 ] فذكره بلفظ الواحد فدل على جواز أن يستوفيه الولي الواحد .

ولأن ابن ملجم قتل عليا رضوان الله عليه فاقتص منه ابنه الحسن ، وقد شاركه من إخوته صغار لم يبلغوا ، ولم يقف القود على بلوغهم ولم يخالفه أحد من الصحابة رضي الله عنهم ، فصار إجماعا على جواز تفرده به .

قال : ولأن للقود حقا يصح فيه النيابة فجاز إذا لم يتبعض أن ينفرد به بعضهم كولاية النكاح ، ولأن القود إذا وجب لجماعة لم يمتنع أن يتفرد باستيفائه واحد ، كالقتيل إذا لم يترك وارثا استحق قوده جماعة المسلمين ، وكان للإمام أن ينفرد باستيفائه .

ودليلنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا ، وإن أحبوا أخذوا العقل فجعل ذلك لجماعتهم ، فلم يجز أن ينفرد به بعضهم ، لما فيه من [ ص: 103 ] العدول عن مقتضى الخبر .

ولأن القود إذا تعين لجماعة لم يجز أن ينفرد به بعضهم ، كما لو كانوا جميعا أهل رشد .

ولأن القود أحد بدلي النفس فلم يجز أن يستوفيه بعض الورثة كالدية .

ولأن كل من لم ينفرد باستيفاء الدية لم يجز أن ينفرد باستيفاء القود كالأجانب .

وأما الآية فمحمولة على الولي إذا كان واحدا .

وأما تفرد الحسن بقتل ابن ملجم لعنه الله فعنه جوابان :

أحدهما : أنه قد كان في شركائه من البالغين من لم يستأذنه ، لأن عليا خلف حين قتل على ما حكاه بعض أهل النقل ستة عشر ذكرا وست عشرة أنثى فيكون جوابهم عن ترك استئذانه للأكابر جوابنا في ترك وقوفه على بلوغ الأصاغر .

والجواب الثاني : أن ابن ملجم انحتم قتله لسعيه بالفساد ، لأن من قتل إمام عدل فقد سعى في الأرض فسادا فصار محتوم القتل ، لا يجوز العفو عنه فلا يلزم استئذان الورثة فيه .

والجواب الثالث : أن ابن ملجم استحل قتل علي - عليه السلام - فصار باستحلاله قتله كافرا ، لأن من استحل قتل إمام عدل كان كافرا فقتله الحسن لكفره ولم يقتله قودا ، وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أيقظ عليا من نومه في بعض الأسفار ، وقد سيقت الريح عليه التراب ، فقال : قم يا أبا تراب ثم قال : أتعرف أشقى الأولين والآخرين قال : الله ورسوله أعلم ، قال : أشقى الأولين عاقر ناقة صالح ، وأشقى الآخرين من خضب هذه من هذا ، وأشار إلى خضاب لحيته من دم رأسه ، فيجوز أن يكون الحسن عرف بهذا الخبر كفر ابن ملجم لعنه الله لاعتقاده استباحة قتل علي فقتله بذلك .

وأما قياسهم على ولاية النكاح فعنه جوابان :

أحدهما : أن ولاية النكاح يستحقها الأكابر دون الأصاغر ، فجاز أن ينفرد بها الأكابر والقود يستحقه الأكابر والأصاغر فلم يجز أن ينفرد به الأكابر .

والثاني : أن ولاية النكاح يستحقها كل واحد منهم فجاز أن ينفرد بها أحدهم . والقود يستحقه جميعهم فلم يجز أن ينفرد به بعضهم .

[ ص: 104 ] فأما ما ذكره من تفرد الإمام بالقود فيمن ورثه جماعة المسلمين ، فالجواب عنه أنه لما لم يتعين مستحقه وكان للكافة ، تفرد به من ولي أمورهم ، وهذا قد تعين مستحقه فافترقا .

التالي السابق


الخدمات العلمية