الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا ثبت أن قاتل الجماعة يقتل بأحدهم لم يخل حال قتله لجماعتهم من ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يقتلهم واحدا بعد واحد .

والثاني : أن يقتلهم في دفعة واحدة .

والثالث : أن يشكل حال قتله لهم ومن يقدم قتله منهم .

فأما القسم الأول : وهو أن يقتلهم واحدا بعد واحد فأحقهم بالاقتصاص منه ولي الأول ، فلا يخاطب أولياء الباقين إلا بعد عرض القصاص على الأول ، فإن طلبه اقتص منه للأول وكان في ماله ديات الباقين ، فإن اتسع ماله لجميع دياتهم استوفوها وإن ضاق عنها استهموا فيها بالحصص ، وصار المتقدمون والمتأخرون فيها أسوة ، وإنما تقدم الأسبق في القصاص ، ولم يتقدم في الدية ، لأن محل الدية في الذمة ، وهي تتسع لجميعها ، فشارك المتأخر الأسبق لاشتراكهما في الذمة ، ومحل القود الرقبة ، وهي تضيق عن اقتصاص الجماعة ولا تتسع إلا لواحد ، فيقدم الأسبق بها على المتأخر ، فإن عفا الأول عن القصاص إلى الدية عرض القصاص على الثاني ، فإن استوفاه رجع الأول ومن بعد الثاني بدياتهم في مال القاتل ، وإن عفا الثاني عن القصاص إلى الدية عرض القصاص على الثالث ، ثم على هذا القياس في واحد بعد واحد إلى آخرهم ، فلو عمد الإمام فقتله للأخير فقد أساء وأثم إن علم بتقدم غيره ، ولا يأثم إن لم يعلم ولا ضمان عليه في الحالين ، وهكذا لو بادر ولي الأخير فقتله قصاصا لم يضمنه ، وعزر عليه ورجع الباقون بدياتهم في مال القاتل ، ولو كان ولي الأول صغيرا أو مجنونا أو غائبا [ ص: 121 ] وقف الاقتصاص من القاتل على إفاقة المجنون وبلوغ الصبي ، وقدوم الغائب ثم عرض الإمام عليهم القصاص على ما مضى ، فإن لم ينتظر به الإمام بلوغ الصبي وإفاقة المجنون وقدوم الغائب وعجل قتله قصاصا لم يخل من أحد أمرين :

إما أن يقتله لهم ، أو يقتله لأولياء من بعدهم ، فإن قتله لهم لم يكن ذلك قصاصا في حقهم ولا حق غيرهم ، لأن لهم العدول عن القصاص إلى الدية فلم يجز أن يفوت عليهم حقهم منها ويصير الإمام ضامنا لدية المقتص منه ، لأن قتله لم يكن قصاصا ، وهل تكون الدية على عاقلته أو في بيت المال ؟ على ما مضى من القولين ، وإن قتله لمن حضر أولياؤه عن أمرهم جاز وقد أساء بتقديمهم على من تقدمهم ، وإن قتله بغير أمرهم كان على ما مضى من قتله في حق الصغير والمجنون والغائب .

وأما القسم الثاني : وهو أن يكون قد قتل الجماعة في حالة واحدة ، فإن سلموا القود لأحدهم كان أحقهم به ، ورجع الباقون بالديات في تركته ، وإن تشاحوا فيه وطلب كل واحد أن يقاد بقتيله أقرع بينهم واختص بقتله من قرع منهم ، ورجع الباقون بدياتهم في تركته ، فإن بادر أحدهم فاقتص منه بقتيله من غير قرعة ، فإن كان بأمر الإمام فقد أساء الإمام ولم يعزر المقتص ، وإن كان بغير أمره عزر ، وقد استوفى بالاقتصاص حقه ورجع الباقون بدياتهم في تركته ، فإن ضاقت اقتسموها بينهم بالحصص من غير قرعة في التقدم ، وإن كان للمقتص منه غرما ضربوا بديونهم مع أولياء المقتولين بدياتهم في التركة ليتوزعوها بينهم على قدر حقوقهم .

وأما القسم الثالث : وهو أن يشكل حال قتله لهم هل ترتبوا ، أو اشتركوا ؟ فهذا على ضربين :

أحدهما : أن يعترف أولياء جميعهم بالإشكال ، فيقال لهم : إن سلمتم القصاص لأحدكم كان أحقكم به وإن تشاححتم أقرع بينكم واقتص منه من قرع منكم .

والضرب الثاني : أن يختلفوا ويدعي كل واحد منهم أنه الأول ، فإن كانت لأحدهم بينة عمل عليها ، وإن عدموها رجع إلى الجاني القاتل ، فإن اعترف بالتقدم لأحدهم كان أحقهم بالقصاص ، وإن لم يعترف أقرع بينهم لتكافئهم ، واختص بالقصاص من قرع منهم ، فلو شهد اثنان منهم بالتقدم لأحدهم قبلت شهادتهما ، لأنهما غير متهمين فيها فإن ردت شهادتهما بجرح سقط حقهما من القصاص بالاعتراف به لغيرهما ، والاعتبار بالتقدم أن يراعى وقت الموت لا وقت الجناية ، فلو قطع يد زيد ثم قطع يد عمرو فمات عمرو ثم مات زيد استحق زيد القصاص في اليد دون عمرو ، لأن قطع يده أسبق واستحق عمرو القصاص في النفس دون زيد ، لأن موته أسبق والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية