الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي ، رضي الله عنه : ولو قطع يديه ورجليه فمات فعل به الولي ما فعل بصاحبه فإن مات وإلا قتل بالسيف .

قال الماوردي : وهذا صحيح ، ولي المقطوع يداه ورجلاه إذا سرت إلى نفسه بالخيار بين ثلاثة أحوال :

أحدها : أن يضرب عنقه ، فيجوز له ذلك باتفاق ، لأن النفس يقتص من تلفها بالسراية كما يقتص من تلفها بالتوجية .

والحال الثانية : أن يقتص من يديه ورجله ويعفو عن القصاص في النفس فيجوز ، لأنه لما كان الاقتصاص منها مع عدم السراية كان مع السراية أولى ، فإن اقتص وعفى عن النفس إلى الدية لم يستحقها ، لأنه قد استوفى بقطع اليدين والرجلين أكثر منها ، وهذا من المواضع النادرة التي يجوز أن يقتص فيها من النفس ولا يملك ديتها .

وقال أبو حنيفة : إذا عفا عن النفس بعد الاقتصاص من الطرف لزمته دية الأطراف ، استدلالا بأن الأطراف تبع للنفس ، فإذا سقط بالعفو القصاص في النفس التي هي أصل سقط في الأطراف التابعة لها ، لأن القصاص لا يتبعض فصار أخذا لها بغير قصاص ، فلزمه ديتها ، ولا دية عليه عند الشافعي للأطراف مع العفو عن النفس .

وبه قال أبو يوسف ، ومحمد .

ودليلنا هو أن ما لم يضمن من الأطراف إذا اندملت فأولى أن لا يضمن إذا سرت ، لأن القصاص في النفس يسقط بالاندمال كما يسقط بالعفو ، ولأنهما حقان يستوفى كل واحد منهما إذا انفرد ، فجاز مع العفو عن أحدهما أن يستوفى الآخر منهما كالطرفين المختلفين ، وكالدين ، وإذا جاز ذلك سقط فيه الضمان .

[ ص: 145 ] والجواب عن استدلاله بدخول الأطراف في النفس : هو أن حكم كل واحد منهما قد ينفرد عن الآخر فلم يصر بعضا منه ولا تابعا له .

والحال الثالثة : أن يقتص من اليدين والرجلين ثم يقتله قصاصا من نفسه ، فيجوز له ذلك عندنا .

وقال أبو حنيفة : لا يجوز أن يجمع بين القود في الأطراف والنفس ، ويقتص من نفسه دون أطرافه ، استدلالا بأن للطرف بدلين القود والدية ، فلما دخلت دية الأطراف في دية النفس ، وجب أن يدخل قود الأطراف في قود النفس ، لأنه أحد البدلين فأشبه الدية .

ودليلنا : هو أن كل طرف اقتص منه لو انفرد عن النفس جاز الاقتصاص منه وإن اقتص من النفس ، كما لو قتل النفس بالتوجئة ، كذلك إذا قتلها بالسراية ، فإن أبا حنيفة يوافق إذا عاد إليه فذبحه بعد قطع أطرافه أنه يقتص من نفسه وأطرافه ، وإنما يخالف في ذهاب النفس بالسراية إلى القصاص فيما يسقط القصاص في الأطراف ، وإن كان أبو يوسف يسوي بينهما ، ويسقط القصاص من الأطراف فيهما ، ثم يقال لأبي حنيفة : إذا لم يسقط القصاص في الأطراف بالتوجئة التي لم تحدث عن الأطراف فلأن لا تسقط بالسراية الحادثة عن الأطراف أولى ، ولأن المماثلة في القصاص مستحقة ، والأطراف بالأطراف أشبه بالمماثلة من النفس بالأطراف .

والجواب عن قياسهم على الدية مع فساده بالقتل توجئة هو أن القصاص أوسع حكما من الدية ، لأن الجماعة لو قتلوا واحدا قتلوا به جميعا ، وإن لم يجب عليه مع العفو إلا دية واحدة .

التالي السابق


الخدمات العلمية