الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : ولو سأل القود ساعة قطع إصبعه أقدته فإن ذهبت كف المجني عليه جعلت على الجاني أربعة أخماس ديتها .

قال الماوردي : وهذا كما قال ، يجوز القصاص في الأطراف قبل اندمالها .

وقال أبو حنيفة ، ومالك والمزني : لا يجوز أن يقتص من طرف أو جرح حتى يندمل أو يسري إلى النفس ، وبناه أبو حنيفة على أصله الذي تقدم فيه الكلام معه من أن سرايته إلى ما دون النفس موجبة لسقوط القود فيه ، احتجاجا برواية ابن جريج عن ابن الزبير عن جابر أن رجلا جرح فأراد أن يستقيد فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح .

وروى يزيد بن عياض عن أبي الزبير عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يستأنى بالجراحات سنة ، ولأن القود أحد البدلين فلم يجز استيفاؤه قبل استقرار الجناية كالدية ، ولأن القود من الطرف قبل استقرار الجناية قد يجوز أن يسري إلى نفس الجاني قبل سرايته إلى نفس المجني عليه ، فإن جعلتموه قصاصا في النفس كان سالفا في قتل قبل استحقاقه وذلك غير جائز قصاصا إن أخذتم الدية كنتم قد جمعتم بين القصاص والدية وذلك غير جائز .

[ ص: 168 ] ودليلنا رواية أيوب عن عمرو بن دينار عن جابر أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستقيد فقيل له : حتى تبرأ ، فأبى وعجل ، فاستقاد فعرجت رجله ، وبرئت رجل المستقاد منه ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ليس لك شيء أنت أبيت فدل هذا الحديث على ثلاثة أشياء :

أحدها : جواز تعجيل القود قبل الاندمال .

والثاني : أن تأخيره إلى وقت الاندمال استحباب

والثالث : جواز القود من الجناية بغير الحديد ، لأن الجناية كانت بقرن ، وهذا الحديث ذكره الدارقطني في سننه ، ولأن القود واجب بالجناية ، والاندمال عافية من الله تعالى لا توجب سقوط القود ، وسرايتها لا تمنع من استيفائه ، فوجب أن يكون استقرار الجناية على أحد الحالين غير مانع من تعجيل القود ، ولأن ما استحق فيه القود لم يلزم تأخيره كالمندمل .

فأما استدلالهم بالخبر الأول فمحمول على الاستحباب بدليل خبرنا .

وأما الخبر الثاني فمتروك من وجهين :

أحدهما : ضعف راويه ، قال الدارقطني : يزيد بن عياض ضعيف متروك .

والثاني : أن تقدير تأخيره بالسنة لا يلزم بالإجماع .

وأما الجواب عن قياسهم على الدية فهو أن للشافعي في أخذ دية الطرف قبل اندماله قولان :

أحدهما : قاله في كتاب " المكاتب " : لو جنى السيد على عبده المكاتب فقطع يده كان له أن يعجل أرش يده قصاصا من كتابته ، فخرجه أصحابنا قولا في جواز تعجيل الأرش قبل الاندمال ، فعلى هذا إن كان أرش الجناية أقل من دية النفس أخذ جميعها ، وإن كان أكثر من دية النفس كقطع يديه ورجليه فقد اختلف أصحابنا في أخذ ما زاد على دية النفس على وجهين حكاهما أبو حامد الإسفراييني :

[ ص: 169 ] أحدهما : يؤخذ منه ديات الأطراف وإن كانت أربعا فوق دية النفس اعتبارا بحالة الجناية كالقود .

والثاني : حكاه عن أبي إسحاق المروزي أنه لا يؤخذ منه أكثر من دية النفس : لجواز السراية إليها فلا يجب أكثر منها فلا يؤخذ ما يجوز أن يسترجع ، فعلى هذا القول قد بطل أصل القياس للتسوية بين الدية والقود في استيفائهما قبل الاندمال .

والقول الثاني : وهو الصحيح المنصوص عليه في جميع كتبه والمعمول عليه عند سائر أصحابنا أنه لا يجوز أخذ الدية قبل الاندمال وإن كان القود قبله .

والفرق بينهما : أن القود لا يسقط بما حدث بعد الجناية من اندمال أو سراية ، فجاز أن يستوفى قبل استقرارها ، ودية الطرف لا تستقر إلا بعد الاندمال ، لأنه إن قطع إصبعا أرشها عشر الدية فقد يجوز أن يشاركه في قتل المجني عليه مائة نفس ، فلا يلزم كل واحد من الجماعة من الدية إلا عشر عشرها فيحتاج إلى أن يرد على قاطع الإصبع الزيادة عليه فافترقا .

فإن قيل : فقد يجوز أن يحدث في القود مثله ، لأنه قد يجوز أن يشركه قبل اندمال الإصبع خاطئ فتسري الجنايتان إلى نفسه فيسقط القود على العامد .

قيل : إنما يسقط القود عن العامد في النفس إذا شاركه خاطئ بخروج النفس بعمده وخطئه ، فأما الطرف الذي تفرد العامد بأخذه فلا يسقط القود فيه بمشاركة الخاطئ له في النفس ، وصار القود في الطرف محتوم الاستحقاق .

وأما الجواب عن قولهم : إن هذا يفضي عند السرايتين إلى السلف في القصاص فهو أن تقول : لا تخلو السرايتان بعد الجناية والقصاص من أن تتقدم سراية الجناية أو سراية القصاص ، فإن تقدمت سراية الجناية على سراية القصاص ، فقد استوفى بسراية القصاص ما وجب في سراية الجناية من القصاص ، وإن تقدمت سراية القصاص على سراية الجناية ففيه وجهان :

أحدهما : وهو محكي عن أبي إسحاق المروزي أنها تكون قصاصا وإن تقدمت على سراية الجناية ، فلا يكون ذلك سلفا لحدوثها عن قصاص قد استوفي بعد استحقاقه ، والسلف أن يقول : اقطع يدي ليكون قصاصا من سراية الجناية لتقدمها عليه .

[ ص: 170 ] والوجه الثاني : وهو قول أبي علي بن خيران أنها لا تكون قصاصا ، لتقدمها على سراية الجناية وتميز الطرفين عن السرايتين ، فعلى هذا يصير المجني عليه مستحقا لدية النفس لفوات القصاص فيها بالسراية إليها وهي غير مضمونة لحدوثها عن مباح ، وقد استوفى المجني عليه من دية النفس عشرها وهي دية الإصبع المقتص منها ، فيرجع في مال الجاني بتسعة أعشار الدية ، وقد استوفينا هذين الجوابين لما تعلق بهما من شرح المذهب .

التالي السابق


الخدمات العلمية