الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : وكذلك التغليظ في النفس والجراح في الشهر الحرام والبلد الحرام وذي الرحم ، وروي عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أنه قضى في دية امرأة وطئت بمكة بدية وثلث . قال : وهكذا أسنان دية العمد حالة في ماله إذا زال عنه القصاص ( قال المزني ) رحمه الله : إذا كانت المغلظة أعلى سنا من سن الخطأ للتغليظ فالعامد أحق بالتغليظ إذا صارت عليه وبالله التوفيق .

[ ص: 217 ] قال الماوردي : اعلم أن الدية على ثلاثة أقسام :

أحدها : دية العمد المحض ، وهي مغلظة تجب على الجاني حالة .

والثاني : دية العمد الخطأ وهي مغلظة تجب مؤجلة على العاقلة ، فتساوى الديتان في التغليظ ، ويختلفان في التأجيل والتحمل ، فتكون في العمد المحض حالة في مال الجاني ، وفي عمد الخطأ مؤجلة على عاقلته ، لأنه لما كان عمد الخطأ أخف من العمد المحض وقد ساواه في تغليظ الدية لعمده في الفعل خالفه في التأجيل والمحل لخطئه في القصد .

والقسم الثالث : دية الخطأ المحض فهي مخففة على ما سنذكره من صفة التخفيف تتحملها العاقلة مؤجلة في ثلاثة سنين ولا تتغلظ إلا في ثلاثة أحوال :

أحدها : أن يكون قتل الخطأ في الحرم .

والثاني : أن يكون في الأشهر الحرم .

والثالث : أن يكون على ذي الرحم المحرم فتكون مغلظة في الخطأ المحض كما تتغلظ دية العمد المحض ودية العمد الخطأ ، فيصير تغليظ الدية في خمسة أحوال :

في العمد المحض ، وفي العمد الخطأ ، وفي الخطأ المحض ، وفي الحرم ، وفي الأشهر الحرم ، وعلى ذي الرحم المحرم .

وقال أبو حنيفة : لا تتغلظ دية الخطأ المحض بالحرم ولا بالأشهر الحرم ولا على ذي الرحم .

وبه قال مالك والنخعي ، والشعبي ، استدلالا برواية ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : دية الخطأ أخماس ولم يفرق ، ولأن ما وجب بقتل الخطأ لم يتغلظ بالزمان والمكان كالكفارة ، ولأن قتل الخطأ أخف من قتل العمد ، فلما لم يكن للحرم والرحم والأشهر الحرم زيادة تأثير في قتل العمد فأولى أن لا يكون لها زيادة تأثير قتل الخطأ ، ولأن لحرم المدينة حرمة كما لحرم مكة حرمة ، ولشهر رمضان حرمة كما للأشهر الحرم حرمة : ولشرف النسب حرمة كما للرحم حرمة ، ثم لم تتغلظ الدية بحرمة المدينة وحرمة شهر رمضان وحرمة شرف النسب كذلك لا تتغلظ بحرمة الحرم ، وحرمة الأشهر الحرم ، وحرمة الرحم ، لأن القتل كالزنا لوجوب القتل به تارة وما دونه أخرى ، فلما لم يتغلظ حكم الزنا بالمكان والزمان والرحم لم يتغلظ حكم القتل ، ولأنه لو تغلظ حكم القتل بكل واحد من هذه الثلاثة لوجب إذا جمعها أن يضاعف التغليظ [ ص: 218 ] بها وفي إجماعهم على سقوط هذا دليل على سقوط ذلك ، ولأن الأموال تضمن كالنفوس ، والعبد يضمن بالقتل كالحر ، ولم يتغلظ ضمان الأموال وقتل العبد بهذه الثلاثة كذلك لا يتغلظ بها ضمان النفوس في الأحرار .

ودليلنا عليه انعقاد الإجماع به .

روي ذلك عن عمر ، وعثمان ، وابن عباس .

فأما عمر فروى ليث عن مجاهد عن عمر بن الخطاب أنه قال : من قتل في الحرم ، أو قتل في الأشهر الحرم ، أو قتل ذا رحم فعليه دية وثلث .

وأما عثمان فروى ابن أبي نجيح عن أبيه أن عثمان قضى في دية امرأة قتلت بمكة بستة آلاف درهم وألفي درهم تغليظا لأجل الحرم .

وفي رواية الشافعي أنه قضى في دية امرأة ديست في الطواف بالبيت فهلكت بثمانية آلاف درهم .

وأما ابن عباس فروى نافع بن جبير أن رجلا قتل في الشهر الحرام في الحرم فقال ابن عباس : الدية اثنا عشر ألفا وأربعة آلاف تغليظا ، لأجل الحرم ، وأربعة آلاف للشهر الحرام .

وليس لقول هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم مع انتشاره عنهم - لأن فيهم إمامين - مخالف ، فثبت أنه إجماع لا يجوز خلافه .

فإن قيل يجوز أن يكون التغليظ الذي أجمعوا عليه هو في العمد المحض أو في عمد الخطأ فلا يكون فيه دليل على تغليظه بهذه الأسباب الثلاثة في الخطأ فعنه جوابان :

أحدهما : أنهم قد نصوا على تغليظها بهذه الأسباب ، ولو كانت في عمد الخطأ لما تغلظت بها .

والثاني : أنه حكم نقل مع سبب فاقتضى أن يكون محمولا عليه ، كما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سهى ، فسجد فكان محمولا على سجوده لأجل السهو ، ولأنه لما كانت هذه الأسباب الثلاثة مخصوصة بتغليظ الحرمة في القتل جاز أن يتغلظ بها حكم القتل .

[ ص: 219 ] أما الحرم فلقول الله تعالى : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه [ البقرة : 191 ] .

ولرواية أبي سعيد المقبري عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرم مكة ، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسفك فيها دما ، ولا يعضدن فيها شجرا ، فإن رخص مترخص فقال إنها أحلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن الله أحلها لي ساعة ، ثم هي حرام إلى أن تقوم الساعة ولأنه لما تغلظ بالحرم حرمة الصيد كان أولى أن تغلظ به نفوس الآدميين .

وأما الأشهر الحرم فلقول الله تعالى : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم [ التوبة : 136 ] .

وقال تعالى : يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير [ البقرة : 217 ] . وقد كان القتال فيها محرما في صدر الإسلام لعظم حرمتها ، وأما ذو الرحم فلقول الله تعالى : والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب [ الرعد : 21 ] فقيل هي الرحم أمر الله بوصلها ويخشون ربهم في قطعها ، ويخافون سوء الحساب في المعاقبة عليها ، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منع أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة من قتل أبيه يوم بدر ، وقال : دعه يلي قتله غيرك حتى قتله حمزة بن عبد المطلب ، ومنع أبا بكر من قتل ابنه عبد الرحمن يوم أحد ، وإذا كانت هذه الثلاثة مخصوصة بزيادة الحرمة وعظم المأثم في القتل جاز أن يختص بتغليظ الدية كالعمد وعمد الخطأ .

ويدل عليه من طريق القياس : أنه قتل في الحرم فكان العمد والخطأ في قدر غرمه سواء كقتل الصيد .

وأما الجواب عن عموم جواب ابن مسعود فتخصيصه بدليلنا .

وأما قياسهم على الكفارة ، فالجواب عنه أنها لما لم تتغلظ بالعمد لم تتغلظ بهذه الأسباب ، والدية لما تغلظت بالعمد تغلظت بهذه الأسباب

وأما قياسهم على العمد فالمعنى فيه أنه قد استوفى غاية التغليظ فلم يبق للتغليظ تأثير والخطأ بخلافه .

وأما اعتبارهم حرم مكة بحرم المدينة فقد اختلف أصحابنا فيه ، فمنهم من غلظ الدية فيها كتغليظها بمكة من قوله في القديم إن صيدها مضمون ، فعلى هذا يسقط الاستدلال .

[ ص: 220 ] وقال الأكثرون : لا تتغلظ الدية فيها وإن تغلظت بحرم مكة ، لأن حرم مكة أغلظ حرمة لاختصاصه بنسكي الحج والعمرة ، وتحريم الدخول إليه إلا بإحرام ، فلذلك تغلظت الدية فيه بخلاف المدينة ، وهكذا اختلف أصحابنا في تغليظ الدية بالقتل في الإحرام على هذين الوجهين .

وأما اعتبارهم الأشهر الحرم بشهر رمضان فغير صحيح ، لأن حرمة شهر رمضان مختصة بالعبادة دون القتل ، وحرمة الأشهر الحرم مختصة بالقتل فلذلك تغلظت الدية بالأشهر الحرم ولم تتغلظ بشهر رمضان .

وأما اعتبارهم ذا الرحم بذي النسب فلا يصح ، لأن حرمة الرحم أقوى لاختصاصها بالتوارث والنفقة .

وأما اعتبار القتل بالزنا ، فالفرق بينهما : أن الزنا لما لم يختلف حكمه باختلاف الأعيان لم يختلف المكان والزمان ، ولما اختلف حكم القتل باختلاف الأعيان جاز أن يختلف بالمكان والزمان .

وأما اعتبارهم نفوس الأحرار بنفوس العبيد والأموال .

فالفرق بينهما : أنه لما لم يختلف في نفوس العبيد والأموال غرم العمد والخطأ لم يختلف بالزمان والمكان ، ولما اختلف في نفوس الأحرار غرم العمد والخطأ اختلف بالزمان والمكان والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية