الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : ولم أعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم فيما دون الموضحة بشيء ففيما دونها حكومة لا يبلغ بها قدر موضحة وإن كان الشين أكثر .

قال الماوردي : قد ذكرنا شجاج الرأس قبل الموضحة وأنها ست :

الحارصة : وهي التي تشق الجلد .

ثم الدامية ، وهي التي يدمى بها موضع الشق .

ثم الدامغة ، وهي التي يدمغ منها الدم .

ثم الباضعة وهي التي تبضع اللحم فتشقه .

ثم المتلاحمة وهي التي تمور في اللحم حتى تنزل فيه وقد تسمى البازلة ، ومنهم [ ص: 238 ] من جعل البازلة شجة زائدة بين الباضعة والمتلاحمة فيجعل ما قبل الموضحة سبعا .

ثم السمحاق وهي التي تمور جميع اللحم حتى تصل إلى سمحاق الرأس وهي جلدة تغشى عظم الدماغ ، ويسميها أهل المدينة الملطاة ، ومنهم من جعلها بين المتلاحمة والسمحاق فيجعل شجاج ما قبل الموضحة ثمانيا ، ولا أعرف لهذه الملطاة حدا يزيد على المتلاحمة وتنقص عن السمحاق فيصير وسطا بينهما ، وليس في جميع هذه الشجاج التي قبل الموضحة أرش مقدر بالنص ، وأول الشجاج التي ورد النص بتقدير أرشها الموضحة لانتهائها إلى حد مقدر فصار أرشها مقدرا كالأطراف ، وإذا لم يتقدر أرش ما قبل الموضحة نصا فقد اختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه :

أحدها : وهو الظاهر من نصوص الشافعي ، وقول جمهور أصحابه : أن فيها حكومة يختلف قدرها باختلاف شينها تتقدر بالاجتهاد ولا يصير ما قدره الاجتهاد فيها مقدرا معتبرا في غيرها ، لجواز زيادة الشين ونقصانه ، فإذا أفضى الاجتهاد في حكومة أرشها إلى مقدار ينقص من دية الموضحة على ما سنصفه من صفة الاجتهاد أوجبنا جميعه ، وإن زاد على دية الموضحة أو ساواها لم يحكم بجميعه ونقص من دية الموضحة بحسب ما يؤديه الاجتهاد إليه ، لأن شينها لو كان في موضحة لم يزد على ديتها ، فإذا كان فيما دون الموضحة وجب أن ينقص من ديتها .

فإن قيل : فقد يجب فيما دون النفس أكثر من الدية وإن لم يجب في النفس إلا الدية فهلا وجب فيما دون الموضحة بحسب الشين أكثر مما يجب في الموضحة .

قيل : لأن ما دون الموضحة بعض الموضحة وبعضها لا يكافئها وليست الأطراف بعض النفس ، لأن النفس لا تتبعض فجاز أن يجب فيها أكثر مما يجب في النفس .

والوجه الثاني : وهو محكي عن أبي العباس بن سريج أن أروشها مقدرة بالاجتهاد كما تقدرت الموضحة وما فوقها بالنص ولا يمتنع إثبات المقادير اجتهادا كما تقدر القلتان بخمسمائة رطل اجتهادا ، فجعل في الحارصة بعيرا واحدا ، وجعل في الدامية والدامغة بعيرين ، وجعل في الباضعة ، والبازلة ، والمتلاحمة ثلاثة أبعرة ، وجعل في الملطاة ، والسمحاق أربعة أبعرة ، لأنها أقرب الشجاج من الموضحة ، فكان أرشها أقرب الأروش إلى دية الموضحة ، ولما كانت الحارصة أول الشجاج كان فيها أول ما في الموضحة وكان فيما بين الطرفين ما يقتضيه قربة من أحدهما فلذلك رتبه في التقدير على ما ذكره ، وهذا وإن كان مستقرا بالظاهر فاسد من وجهين :

أحدهما : أن ما دخله الاجتهاد بحسب الزيادة والنقصان كان حكمه موقوفا عليه .

والثاني : أنه لو جاز أن يستقر الاجتهاد فيه بمقدار محدود لا يزاد عليه ولا ينقص [ ص: 239 ] منه لكان اجتهاد الصحابة رضي الله عنهم فيه أمضى وتقديرهم له ألزم ، وقد روى سعيد بن المسيب عن عمر وعثمان أنهما قضيا في الملطاة والسمحاق بنصف ما في الموضحة .

والوجه الثالث : حكاه أبو إسحاق المروزي وأبو علي بن أبي هريرة عن الشافعي أن يعتبر قدر ما انتهت إليه في اللحم من مقدار ما بلغته الموضحة حتى وصلت إلى العظم إذا أمكن ، فإذا عرف مقداره من ربع أو ثلث أو نصف كان فيه بقدر ذلك من دية الموضحة ، فإن علم أنه النصف وشك في الزيادة اعتبر شكه بتقويم الحكومة ، فإن زاد على النصف وبلغ الثلثين زال حكم الشك في الزيادة بإثباتها وحكم بها ، ولزم ثلثا دية الموضحة ، وإن بلغت النصف زال حكم الشك في الزيادة بإسقاطها وحكم بنصف الدية ، وإن نقصت عن النصف بطل حكم النقصان والزيادة وثبت حكم النصف ، فإن لم يعلم مقدار ذلك من الموضحة عدل حينئذ إلى الحكومة التي يتقدر الأرش فيها بالتقويم على ما سنذكره ، ولهذا الوجه وجه إن لم يدفعه أصل وذلك أن مقدار الحكومة معتبر بشيئين : الضرر والشين ، وهما لا يتقدران بمقدار المور في اللحم .

وحكي عن الشعبي أنه قال : ليس فيما دون الموضحة أرش ، وليس على الجاني إلا أجرة الطبيب لعدم النص فيه ، وهذا فاسد من وجهين :

أحدهما : أن المنصوص عليه أصل للمسكوت عنه .

والثاني : أنه قد أوجب أجرة الطبيب ولم يرد بها شرع ، وأسقط أرش الدم وقد ورد به شرع ، والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية