الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 297 ] باب فضل الجماعة والعذر بتركها

مسألة : قال الشافعي ، رضي الله عنه : " أخبرنا مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة .

قال الشافعي : " ولا أرخص لمن قدر على صلاة الجماعة في ترك إتيانها إلا من عذر " .

قال الماوردي : لا اختلاف بين العلماء أن الجماعة للجمعة من فروض الأعيان ، ولا يصح أداؤها إلا في جماعة ، فوجب أن تكون الجماعة لها فرضا على الأعيان ، فأما الجماعة لسائر الصلوات المفروضات فلا يختلف مذهب الشافعي ، وسائر أصحابه أنها ليست فرضا على الأعيان ، واختلف أصحابنا : هل هي فرض على الكفاية ، أم سنة ؟ فذهب أبو العباس بن سريج ، وجماعة من أصحابنا إلى أنها فرض على الكفاية ، وذهب أبو علي بن أبي هريرة ، وسائر أصحابنا إلى أنها سنة .

وقال داود بن علي : هي فرض على الأعيان كالجمعة ، وبه قال عطاء ، وأصحاب الحديث ، ومن الصحابة ابن مسعود ، وغيره واستدلوا بقوله تعالى : وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم [ النساء : 102 ] الآية .

فأمر بالجماعة في حال الخوف ، والشدة ولم يرخص في تركها فدل ذلك على وجوبها .

وبما رواه مالك ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لقد هممت أن آمر بالحطب فيحطب ، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ، ثم آمر رجلا فيؤم الناس ، ثم أخالف إلى رجال لم يشهدوا الصلاة ، وأحرق عليهم بيوتهم فلما تواعد على التخلف عنها دل على وجوبها .

وبما رواه سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر .

[ ص: 298 ] وروي أن عتبان بن مالك الضرير قال : يا رسول الله ، إني رجل ضرير شاسع الدار ، فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتسمع النداء ؟ قال : نعم ، قال : أتجد قائدا ؟ قال : لا . فقال صلى الله عليه وسلم : " لا أجد لك رخصة .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : بيننا وبين المنافقين أن لا يحضروا المغرب ، وعشاء الآخرة ، ولو علموا ما فيهما لأتوهما ولو حبوا ، ولو زحفا .

وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : لو صليتم في بيوتكم لضللتم .

وروي عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، أنه قال : لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد .

وهذا الخبر عند أهل العلم أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرو عنه مسندا ، ولا صحيحا ، ولا فاسدا ، وإنما هو موقوف على علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، وروي عن ابن مسعود أنه قال : " لقد رأيتنا إذا كنا مرضى ونحن نهادي إلى صلاة الجمعة بين اثنين " ، ولأنها صلاة مفروضة ، فوجب أن تكون الجماعة لها واجبة كالجمعة .

والدلالة على ما قلناه : ما رواه الشافعي في صدر الباب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة .

وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ .

ووجه الدلالة من هذين الخبرين أن لفظة " أفضل " موضوعة للاشتراك فيما لأحدهما [ ص: 299 ] مزية فيما شاركه فيه .

فإن قيل : فالمراد بهما المعذور بمرض صلاته في الجماعة أفضل من [ ص: 300 ] صلاته منفردا قيل : حمله على المريض ، لأن صلاة المريض مفردا كصلاته الصبح جماعة في الفضل ، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا كان العبد يعمل عملا ثم مرض أمر الله سبحانه ملكين أن يكتبا له أجر عمله في صحته .

فإن قيل : فيحمل على صلاة النافلة هي في الجماعة أفضل منها منفردا .

قيل : لا يصح حمله على النافلة ، لأن صلاة النافلة في البيت أفضل منها في الجماعة لقوله صلى الله عليه وسلم : صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في الجماعة إلا المكتوبة .

ومن الدلالة على ما قلناه رواية أبي بن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده ، وصلاة الرجل مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل ، وكلما كثرت كان أحب إلى الله عز وجل فجعل النبي صلى الله عليه وسلم بين صلاة الجماعة والانفراد من الصلاة مثل ما بين كثرة الجماعة وقلتهم من الفضل ، فدل ذلك على أن الجماعة غير فرض ، لأن العدول من قليل الجماعة إلى كثيرها غير فرض .

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : من لم يصل في عمره صلاة واحدة في جماعة لقي الله عز وجل ، كأنه لم يصل قط فخرج ذلك منه على طريق الترغيب فيها لا من زعم وجوبها ، أوجبها في كل صلاة ، ويحمل ذلك على من يراها سنة أبدا .

وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد دخل المسجد بعد فراغ الناس من الصلاة ، [ ص: 301 ] فقال : من يتصدق على هذا فيصلي معه ؟ فلو كانت الجماعة واجبة لأنكر عليه تأخره ، ولنهاه عن مثله ، ولما أخبر أن الصلاة معه صدقة عليه ، ولأنها صلاة تؤدى جماعة ، وفرادى ، فوجب أن لا تجب الجماعة فيها كالنوافل .

فأما الجواب عن قوله تعالى : وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة [ النساء : 102 ] . فالمراد بها تعليم صلاة الخوف ، وبيانها عند ملاقاة العدو : لأن ذلك أبلغ في حراستهم : لأنهم لو صلوا منفردين اشتغل كل واحد منهم بنفسه ، فلم يؤمن سطوة العدو بهم عند انتهاز الفرصة منهم لشغلهم ، ولو أمروا أن يصلوا معا لأدى ذلك إلى الظفر بهم ، وأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يفترقوا فريقين ، فيصلي بفريق ، ويحرسهم فريق ، فلم يكن في الآية دليل على وجوب الجماعة .

وأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم : ثم أخالف على رجال لم يشهدوا الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم هو أن تحريق بيوتهم لنفاقهم لا لتخلفهم عن الجماعة غير أنه استدل بتخلفهم على نفاقهم .

والدليل على أن الوعيد لأجل النفاق لا لأجل التخلف عن الجماعة شيئان :

أحدهما : أنه لا يجوز حرق الدور ، ونهب الأموال بالتخلف عن الجماعة بالإجماع .

والثاني : قوله صلى الله عليه وسلم في الخبر : " ثم أخالف إلى رجال لم يشهدوا الصلاة " . ولا خلاف أن من لم يشهد الصلاة بنفسه وأداها جماعة في منزله أنه قد أدى فرضه من غير إثم ولا معصية .

وأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم : من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر . فالمراد به نداء الجمعة الذي قال الله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله [ الجمعة : 9 ] . وأما الجواب عن حديث عتبان بن مالك : فيحمل على أحد أمرين : إما على صلاة الجمعة ، أو على أنه سأله عن الأفضل ، والأكمل بدليل إجماعنا أن الضرير معذور بالتخلف عنها .

وأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم : بيننا وبين المنافقين أن لا يحضروا المغرب وعشاء الآخرة فجوابان : أحدهما : أنه قصد به طائفة من المنافقين معروفين كعبد الله بن أبي بن سلول ، وأصحابه لتخصيص المغرب والعشاء مع استواء حكم الجماعة في كل الصلوات .

[ ص: 302 ] والثاني : أنه أخرج ذلك على جهة الحث والترغيب كقوله صلى الله عليه وسلم : بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة فكذا الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم : لو صليتم في بيوتكم لضللتم كالجواب عن الخبر المتقدم ، فأما الجواب عن قول علي ، رضي الله عنه : " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " فمحمول على أحد أمرين : إما على نفي الكمال ، أو على أنه لا صلاة في بيته بصلاة الإمام في مسجده .

وأما الجواب عن خبر ابن مسعود ، فمقصوده به التنبيه على فضل الجماعة ، وتحمل المشقة لها ، وليس فيه دليل على وجوبها .

وأما قياسهم على الجمعة فالمخالف يبطل القياس على أن المعنى في الجمعة أن الجماعة إنما وجبت لها : لأن الجماعة من شرط صحتها ، ولما لم تكن الجماعة من شرط سائر الصلوات لم تكن الجماعة واجبة لها .

فإذا تقرر ما ذكرنا أن الجماعة ليست فرضا على الأعيان ، فقد ذكرنا فيهما وجهين :

أحدهما : هو قول أبي علي بن أبي هريرة ، وجماعة من أصحابنا أنها سنة ، ودليلنا ما تقدم ، فعلى هذا لو أطبق أهل بلد أو قرية على ترك الجماعة فقد أساءوا بتركها ، ولم يأثموا ، ويؤمروا بها ، ويؤاخذوا على تركها .

والوجه الثاني : وهو قول أبي العباس بن سريج ، وأبي إسحاق المروزي ، وغيرهما أنها فرض على الكفاية . ودليلنا ما رواه أبو الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من ثلاثة في قرية لم تقم فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان ، عليكم بالجماعة وإن الذئب يأخذ القاصية فعلى هذا إن أجمع أهل بلد على تركها فقد عصوا ، وأثموا بقعودهم عنها ، ووجب على السلطان قتالهم على تركها ، وإن قام بفعلها من تقع به الكفاية منهم ، وانتشر ظهورها بينهم سقط فرض الجماعة عنهم ، فإذا كانت قرية صغيرة ، وأقيمت الجماعة في مسجد واحد ، فانتشرت وظهرت سقط الفرض ، وكان لباقي أهلها أن يصلوا منفردين ، وإن كان البلد واسعا لم يسقط الفرض بإقامتها في مسجد واحد ، ولا بإقامتها في المنازل ، والبيوت لعدم ظهورها ، وانتشارها ، حتى تقام في عدة مساجد تظهر بها الجماعة ، وتنتشر فيسقط الفرض عن الباقين ، ويجوز أن يصلوا منفردين .

التالي السابق


الخدمات العلمية