الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي ، رضي الله عنه : " وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر مناديه في الليلة المطيرة والليلة ذات الريح ، ألا صلوا في رحالكم ، وأنه صلى الله عليه وسلم قال : إذا وجد أحدكم الغائط فليبدأ به قبل الصلاة قال فيه : أقول : لأن الغائط يشغله عن الخشوع ، قال : فإذا حضر فطره ، أو طعام مطر وبه إليه حاجة ، وكانت نفسه شديدة التوقان إليه أرخصت له في ترك إتيان الجماعة . ( قال المزني ) : وقد احتج في موضع آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا وضع العشاء فأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء ( قال المزني ) : فتأوله على هذا المعنى لئلا يشغله منازعة نفسه عما يلزمه من فرض الصلاة .

قال الماوردي : قد ذكرنا في فضل الجماعة ، والحث عليها ما فيه مقنع وغنى ، وذكرنا [ ص: 304 ] أن من تركها كان مسيئا على قول من يرى أنها سنة ، أو عاصيا على قول من يرى أنها فرض إلا أن يكون معذورا بالتخلف عنها ، فلا يكون مسيئا ، ولا عاصيا ، والعذر على ضربين .

[ الأول ] : خاص .

[ الثاني ] : عام ، فالعذر العام المطر الشديد ، والريح الشديدة الباردة ، والوحل المانع إلا أن المطر عذر في جواز التخلف عن الجماعة ، وجواز الجمع بين الصلاتين ، والوحل ، والريح ليسا بعذر في جواز الجمع بين الصلاتين ، ومن ذلك الزلزلة ، والخوف العام من متغلب غير مأمون على نفس أو مال .

والدليل على جواز ترك الجماعة بما ذكرناه من الأعذار العامة ما رواه نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر مناديه في الليلة المطيرة ، والليلة ذات الريح : ألا صلوا في رحالكم وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا ابتلت النعال فالصلاة في الرحال . وما ورد في هذا الحديث من تأويلات

وفي النعال ثلاثة تأويلات .

أحدها : أنه عنى بها النعال المعهودة في اللباس .

والثاني : أنه عنى بها الأرجل والأقدام .

والثالث : أنه عنى بها حجارة صغارا : فهو أن يكون مريضا ، أو مشغولا بتمريض قريب له أو نسيب ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ترك صلاة الجماعة في مرضه ، أو يدافع الأخبثين أي : الغائط والبول ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : لا يصلي أحدكم وهو يدافع الأخبثين .

وقال صلى الله عليه وسلم : لا يصلي أحدكم وهو زناء أو يكون تائق النفس إلى الطعام عند حضور الجماعة شديد القوم إليه لغلبة الجوع عليه ، فيبدأ بما يطفي لهب جوعه ، ويسكن توقان نفسه من أكل تمرة ، أو تمرتين ، أو لقمة ، أو لقمتين ، فإن علم بعد ذلك أنه يدرك صلاة الجماعة بادر إليها ، ولم يستوف أكله ، فإن فاتته الجماعة ، وكان وقت الصلاة باقيا كان له أن يستوفي أكله .

وأصل ذلك في رواية أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء .

[ ص: 305 ] وحكم العشاء والغداء في ذلك سواء ، وكذلك حكم صلاة العشاء ، وغيرها من الصلوات ، في ذلك سواء ومن العذر أيضا : أن يخاف على نفسه ، أو ماله من سلطان ، أو ذا جر ، أو يكون ذا عسرة يخاف ملازمة غريم شحيح ، أو يكون مسافرا ، ويخاف إن صلى جماعة أن يرحل أصحابه ، وينقطع عن صحبتهم ، فهذا وما أشبهه عذر في ترك الجماعة ، لأن كل ذلك خوف ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر ، فقيل : وما العذر قال : المرض والخوف ، ولأن هذه أحوال تمنعه وتبعثه على العجلة ، وتدعوه إلى السهو فعذر بترك الجماعة من أجلها ، وكذلك نظائرها وأشباهها - والله أعلم بالصواب -

التالي السابق


الخدمات العلمية