الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : دليل أبي حنيفة والرد عليه

وأما أبو حنيفة فاستدل على إزالة النجاسة بكل مائع طاهر بما روي عن أم سلمة أنها قالت : يا رسول الله ، إني امرأة أطيل ذيلي وأجره في المكان القذر . فقال عليه السلام : " يطهره ما بعده " ومعلوم أن ليس بعده إلا التراب فدل على أن لغير الماء مدخل في تطهير النجاسة ، وبما روي أن عائشة رضي الله عنها أصاب ثوبها دم فبلته وقرصته بريقها ، فدل على أن الريق يزيل النجاسة ، وقالوا : ولأنه مائع طاهر مزيل فزال إزالة النجاسة به كالماء ، قالوا : ولأن ما أزال عين النجاسة أوجب إزالة حكمها ، كالقطع بالمقص ، قالوا : ولأن ما استحق إزالة عينه بعيدا لم يختص بالماء كالطيب على بدن المحرم ، قالوا : ولأن الحكم إذا ثبت لمعنى زال الحكم بزوال ذلك المعنى ، فلما كان المعنى في تنجيس المحل وجود العين وجب إذا ارتفعت أن يزول تنجيس المحل ، قالوا : ولأن إناء الخمر لما طهر بانقلابه خلا ، علم أن الخل طهره ، فلما جاز أن يكون الخل مطهرا لإناء الخمر ، جاز أن يكون مطهرا لكل نجس ، قالوا : ولأن هرا لو أكلت فارة أو ميتة ثم ولغت في إناء كان الماء طاهرا ، فدل أن فيها طهر بريقها ، قالوا : ولأن لما كان لغير المائع مدخل في إزالة النجاسة ، وهو الشث والقرظ في الدباغة لم يكن الماء مختصا بالإزالة فكان المائع أولى من الجامد ، لأنه أبلغ في الإزالة .

ودليلنا قوله تعالى : " وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به [ الأنفال : 11 ] . والاستدلال بها من وجهين :

أحدهما : أن الله تعالى أخرج هذا مخرج الفضيلة للماء والامتنان به ، فلو شاركه غيره فيه لبطلت فائدة الامتنان .

والثاني . أنه لو أراد بالنص على الماء التنبيه على ما سواه لنص على أدون المائعات ، ليكون تنبيها على أعلاها ، فلما نص على الماء وعلى أعلى المائعات علم أن اختصاصه بالحكم .

[ ص: 45 ] وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ولا سيما في دم الحيض يصيب الثوب حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء " فأمرها بالماء ، والأمر إذا ورد مقيدا بشرط لم يسقط إلا بوجود ذلك الشرط ، ولأنها طهارة شرعية فوجب أن لا تجوز بمائع غير الماء ، كرفع الحدث ، ولأنه غسل مفروض فوجب أن لا يجوز بمائع غير الماء كالغسل من الجنابة ؛ ولأنه مائع لا يرفع الحدث فوجب أن لا يزول النجس كالدهن ، والمرق ، ولأن للماء نوعين من التطهير :

أحدهما : تطهير نفسه بالمكاثرة .

والثاني : تطهير غيره بالمباشرة . فلما انتفى عن المائع تطهير نفسه بالمكاثرة . وجب أن تنتفي عن المائع تطهير غيره بالمباشرة ، وتحريره أنه أحد نوعي التطهير فوجب أن ينتفي عن المائع قياسا على تطهير المكاثرة ، ولأن كل ما نجس بورود النجاسة عليه بكل حال ، نجس بوروده على النجاسة بكل حال كغيره المائع طردا ، وكالماء عكسا ، وإن شئت قلت : ملاقاة الحل والنجاسة يوجب أن يغلب عليه حكم النجاسة ، كما لو وقعت منه نجاسة ، ولأن إزالة النجس أعلا من رفع الحدث بدلالة أن من كان محدثا ، وعلى بدنه نجاسة ، ووجد من الماء ما يكفي أحدهما لزمه استعماله في النجاسة دون الحدث ، فلم يجز استعمال المائعات في رفع الحدث وهو أخف الأمرين حالا فالأولى أن لا يجوز استعماله في إزالة النجاسة لأنه أغلظهما حالا .

وأما الجواب عن تعلقهم بحديث أم سلمة وقوله عليه السلام : " يطهره ما بعده " فهو أنها إشارات إلى غير النجاسة ، أو إلى نجاسة يابسة بدليل أن النجاسة الرطبة لا تطهر بالدلك اتفاقا .

وأما حديث عائشة فمحمول على أحد أمرين إما على نجاسة يسيرة يعفى عن مثلها أو على أنها فعلت ذلك لتلين النجاسة بريقها ، ثم تغسلها بدليل أن الريق لا يزيل النجاسة .

وأما قياسهم على الماء ، فالمعنى في الماء أنه يرفع الحدث فلذلك أزال النجس .

وأما قياسهم على القطع بالمقص ، فالمعنى فيه أنه أزال محل النجاسة .

وأما قياسهم على الطيب في بدن المحرم فالمعنى في الطيب أن القصد منه إزالة ريحه لا إزالة حكمه ، وليس كذلك النجاسة .

وأما قولهم : إن ارتفاع المعنى الموجب للحكم يوجب ارتفاع ذلك الحكم ، فمن أصحابنا من منع ذلك ، ويقول : ليس ارتفاع معنى الحكم موجبا لارتفاع ذلك الحكم ،

[ ص: 46 ] فعلى هذا يمنعون من وجه الاستدلال ، وقال أكثرهم : إن ارتفاعه يوجب ارتفاع حكمه ، فعلى هذا أن يكون المعنى هو حكم النجاسة دون العين ، ألا ترى أنه قد ثبت حكم النجاسة مع عدم العين ، وذلك في ولوغ الكلب في الماء القليل إذا نجس ، وقد يوجد عين النجاسة في الماء الكثير ، ولا يحكم بنجاسته ما لم تغيره ، وفي مسألتنا حكم النجاسة لم يزل بالمائع فكان معنى الحكم باقيا ، وأما نجاسة الإناء إذا ارتفعت بانقلاب الخمر خلا ، وإنما كان ذلك لأن نجاسة الإناء على ظاهره من إجزاء الخمر فإذا انقلبت في الإناء خلا انقلبت تلك الأجزاء معها فصارت خلا فطهر الجميع ، ولا يكون هذا إزالة نجس ، وإنما هو انقلاب خمر إلى خل .

وأما استدلالهم بالهرة إذا أكلت فأرة فغير مسلم ؛ لأننا متى علمنا نجاسة فمها بأن ولغت في الإناء قبل أن تغيب عن العين فالماء نجس ، وإن غابت عن العين ففيه وجهان :

أصحهما : أن الماء نجس ، لأن الأصل بقاء النجاسة في فمها .

والثاني : أن الماء طاهر لأن الأصل طهارة الماء ، وقد يجوز أن الهرة حين غابت ولغت في إناء آخر فطهر فمها .

وأما استشهادهم بالدباغة فحكمها خارج عن إزالة النجاسة ، ألا ترى أن الدباغة لا تجوز بالماء الذي هو أقوى المائعات حكما في إزالة الأنجاس ، لخروجها عن حكم سائر الأنجاس . .

التالي السابق


الخدمات العلمية