الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : وإذا عرض لهم ما يخافون به التلف عليها وعلى من فيها فألقى أحدهم بعض ما فيها رجاء أن تخف فتسلم فإن كان ماله فلا شيء على غيره ، وكذلك لو قالوا له ألق متاعك فإن كان لغيره ضمن .

قال الماوردي : وهذا كما قال ، إذا خاف ركبان السفينة من غرقها لثقل ما فيها وعصوف الريح بها فألقى رجل بعض متاعها لتخف فتسلم فهذا على ضربين :

أحدهما : أن يلقي متاع نفسه .

والثاني : أن يلقي متاع غيره .

فإن ألقى متاع غيره كان متعديا بإلقائه ، سواء كان الملقي صاحب السفينة أو غيره ، وعليه ضمانه ، سواء نجت السفينة أو هلكت ، منعه المالك من إلقائه أو لم يمنعه ، لأن إمساكه عن منعه لا يبرئه من ضمانه ، كما لو قتل له قتيلا أو قطع منه عضوا ، ولا يجب على ركبان السفينة من ضمانه شيء وإن كان سببا لسلامتهم ، فلو [ ص: 335 ] كانوا قد أمروه بإلقائه لم يضمنوا ، لأن الملقي لا يستبيح الإلقاء بأمرهم ، فصار وجود أمرهم وعدمه سواء .

فإن قيل : فهلا سقط ضمان هذا المال لما في استهلاكه من خلاص النفوس كالفحل إذا صال فقتل لم يضمن .

قيل : لأن خوف الفحل لمعنى فيه فسقط ضمانه ، وخوف الغرق لمعنى في غير المالك فلزم ضمانه ، كما لو اضطر إلى أكل طعام غيره ضمنه ، فإن ألقى متاع نفسه على ضربين :

أحدهما : بأمرهم .

والثاني : بغير أمرهم .

فإن ألقاه بغير أمرهم كان محتسبا في إلقائه لما يرجى من نجاته ونجاتهم ، وليس له الرجوع بقيمته على أحد منهم ، وإن كان ألقاه سببا لنجاتهم : لأنه تطوع بإلقائه ، وإن ألقاه بأمرهم فعلى ضربين :

أحدهما : أن يضمنوا له قيمته .

والثاني : أن لا يضمنوها .

فإن لم يضمنوها بل قالوا ألق متاعك فألقاه فلا غرم له عليهم وإن أمروه به ، وحكي عن مالك أن عليهم ضمانه وغرمه : لأن الآمر كالفاعل ، ولما في ذلك من عموم الصالح وهذا فاسد : لأمرين :

أحدهما : أنهم لو أمروه باستهلاكه في غير البحر لم يضمنوه فكذلك في البحر .

والثاني : أنهم لو أمروه بعتق عبده أو بطلاق زوجته لم يضمنوا كذلك بإلقاء ماله وإن ضمنوه له فقالوا له ألق متاعك وعلينا ضمانه فألقاه لزمهم ضمانه ، وهو قول الجمهور ، وقال أبو ثور : لا يلزمهم ضمانه ، لأنه ضمان ما لم يجب ، كما لو قال له : قد ضمنت لك ما تداين به فلانا لم يلزمه ضمان ما داينه به ، لتقدم ضمانه على الوجوب ، وهذا فاسد من وجهين :

أحدهما : أن أحكام الضرورات وعموم المصالح أوسع من أحكام العقود الخاصة في الاختيار .

والثاني : أنه لو قال له : اعتق عبدك عني وعلي ضمانه لزمه الضمان لعتقه كذلك في مسألتنا ، فأما ضمان ما لم يجب فقد اختلف أصحابنا فيه هاهنا على وجهين :

أحدهما : أنه ليس بضمان ، وإنما هو استدعاء للاستهلاك بشرط الغرم : لأن [ ص: 336 ] الضمان ما كان الضامن فيه فرعا للمضمون عنه وهذا غير موجود هاهنا .

والوجه الثاني : أنه ضمان وإن انعقد قبل الوجوب بخلاف المداينة .

والفرق بينهما أن ضمان المتاع بعد إلقائه لا يصح فصح ضمانه قبل إلقائه ، وضمان المداينة بعد استحقاقها يصح فلا يصح ضمانها قبل الاستحقاق ، ويشهد له من الأصول أن بيع الثمر لما صح بعد خلقها لم يجز بيعها قبل خلقها ، ومنافع الدار المستأجرة لما لم تصح المعاوضة عليها بعد حدوثها صح قبل حدوثها ، كذلك ما ذكرناه من الضمان .

فأما إذا قال له وقد أمنوا الغرق : ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه ، فألقاه ففي لزوم هذا الضمان وجهان :

أحدهما : وهو قول أبي حامد الإسفراييني : لا يلزمه لعدم الضرورة وارتفاع الأغراض الصحيحة .

والوجه الثاني : يلزمه ضمان بشرط الضمان عند الاستهلاك ، والأول أشبه والثاني أقيس .

فأما أخذ الرهن في هذا الضمان فلا يصح لأمرين :

أحدهما : لعقده قبل وجوب الحق .

والثاني : للجهل بمقدار القيمة .

وأجازه بعض أصحابنا كالضمان وليس بصحيح : لأن حكم الضمان أوسع من حكم الرهن : لأن ضمان الدرك يجوز أخذ الرهن عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية