الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 365 ] باب عقل الحلفاء

مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : ولا يعقل الحليف إلا أن يكون مضى بذلك خبر ولا العديد ولا يعقل عنه ولا يرث ولا يورث إنما يعقل بالنسب أو الولاء الذي كالنسب وميراث الحليف والعقل عنه منسوخ وإنما يثبت من الحليف أن تكون الدعوة واليد واحدة لا غير ذلك .

قال الماوردي : قد كان التوارث والعقل معتبرا في الجاهلية بخمسة أشياء : بالنسب ، والولاء ، والحلف ، والعديد ، والموالاة .

فأما النسب ، والولاء : فقد استقر الإسلام على استحقاق الميراث وتحمل العقل بهما .

وأما الحلف : فهو أن تتحالف القبيلتان عند استطالة أعدائها على التناصر والتظافر لتمتزج أنسابهم ويكونوا يدا على من سواهم فيتوارثون ويتعاقلون ، أو يتحالف الرجلان على ذلك فيصيرا كالمتناسبين في التناصر والتوارث والعقل ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلف المطيبين حين اجتمعت عليه قبائل قريش في دار عبد الله بن جدعان قبل الإسلام على نصرة المظلوم ، وإغاثة الملهوف ، ومعونة الحجيج ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : أنا من حلف المطيبين ، وما زاده الإسلام إلا شدة وما يسرني بحله حمر النعم .

وفيه توارث المسلمون بالحلف في صدر الإسلام ، وتأوله بعض العلماء في قوله تعالى : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم [ النساء : 33 ] ثم نسخ التوارث بالحلف بقوله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض [ الأنفال : 75 ] .

فأما تحمل العقل بالحلف فالذي عليه الشافعي - رضي الله عنه - وأبو حنيفة وجمهور الفقهاء أن الحلفاء يتعاقلون إلا أن يكونوا متناسبين فيتعاقلون بالنسب دون الحلف .

وحكي عن مالك بن أنس ومحمد بن الحسن أن الحلفاء يتعاقلون بالحلف وإن لم يتناسبوا استدلالا بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم [ ص: 366 ] هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقله وإنما قال ذلك لأن خزاعة وبني كعب كانوا حلفاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحلفاء بني هاشم فتحمل العقل عنهم بالحلف مع التباعد في النسب .

والدليل عليهم قوله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض [ الأنفال : 75 ] فكان على عمومه في اختصاصهم بأحكام النسب .

وروي أن علي بن أبي طالب - عليه السلام - أراد أن يحالف رجلا فنهاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك وقال : لا حلف في الإسلام أي لا حكم له ، لأن الحلف إن كان على معصية كان باطلا ، وإن كان على طاعة فدين الإسلام يوجبها ، فلم يكن للحلف تأثير ، ولأن عقود المناكح أوكد من الحلف ، ثم لا توجب تحمل العقل ، فكان الحلف أولى أن لا يوجبه ، وأما تحمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقل خزاعة فعنه ثلاثة أجوبة :

أحدها : أنه تحمل عقلهم تفضلا لا وجوبا .

والثاني : يجوز أن يكون تحمله عنهم حين كان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالحلف .

والثالث : أن معنى قوله : وأنا والله عاقله أي أحكم بعقله .

وأما العديد : فهو أن القبيلة القليلة العدد تعد نفسها عند ضعفها عن المحاماة في جملة قبيلة كثيرة العدد قوية الشوكة ليكونوا منهم في التناصر والتظافر ولا يتميزون عنهم في سلم ولا حرب ، أو ينافر الرجل الواحد قومه فيخرج نفسه منهم وينضم إلى غيرهم ويعد نفسه منهم فهذا أضعف الحلف ، لأن في الحلف أيمانا ملتزمة وعقودا محكمة وهذا استجارة وغوث فلم يتوارث به المسلمون مع توارثهم بالحلف فكان أولى أن لا يوجب تحمل العقل ، ولا أعرف قائلا بوجوب عقله .

وأما الموالاة ، فهو أن يتعاقد الرجلان لا يعرف نسبهما على أن يمتزجا في النسب والنصرة ليعقل كل واحد منهما عن صاحبه ويرثه ، فهذا عقد فاسد على مذهب الشافعي ، وأكثر الفقهاء لا يوجب توارثا ، ولا عقلا ، وأجازه أبو حنيفة وقال : لا يرث واحد منهما صاحبه ، إلا أن يعقل عنه ، فإذا عقل عنه توارثا ، والكلام فيه مذكور في التوارث بالولاء وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية