الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي ، رضي الله عنه : " وإذا أحس الإمام برجل وهو راكع لم ينتظره ، ولتكن صلاته خالصة لله تعالى " .

قال الماوردي : قال المزني : ورأيت في رواية بعضهم عنه أنه قال : لا بأس بانتظاره ، والأول عندي أولى بالصواب : لتقديمها على من قصر في إتيانها ، وهذا كما قال انتظار الإمام في صلاته قوما يدركون الجماعة على ثلاثة أضرب : ضربان يكرهان وضرب مختلف فيه .

فأما الضربان المكروهان :

فأحدهما : أن ينتظر في صلاته اجتماع الناس وتكاثرهم ، فيبطل ركوعه ، وسجوده ، وقراءته ، وتسبيحه ليكثر جمعهم ، ويتلاحق آخرهم بأولهم .

والثاني : أن يكون انتظاره لرجل بعينه يخصه به ، إما إكراما لذي مودة ، أو قرابة ، أو إعظاما لذي رياسة ، أو مهابة ، فهذان الضربان من الانتظار مكروهان لأن فيه إسقاط حق السابق الحاضر بانتظار من ليس بحاضر ، وترك الخشوع بقضاء الحقوق .

وأما الضرب الثالث : فهو مسألة الكتاب .

وصورته : أن يحس الإمام وهو راكع برجل يريد الدخول معه في الصلاة ، وإن لم ينتظره ، ومضى في صلاته ، كان أولى وأفضل .

وإن انتظره ليدرك الركعة معه جاز ، وهل يكره له ويكون مسيئا به أم لا ؟ على قولين :

أحدهما : وهو قوله في القديم : لا يكره له ولا يكون مسيئا بل هو مباح . والقول الثاني قاله في الجديد وهو الصحيح وبه قال أبو حنيفة ، فقد أشرك بين العمل لله سبحانه وتعالى [ ص: 321 ] وبين العمل للمخلوقين ، ولم يرد به الإشراك الذي هو الكفر ، كما وهم بعض أصحابنا وأفتى بشركه ، وإباحة دمه ، فأخرجه عن الملة بوهمه ، ولم يفهم معنى قوله وكيف يكون مشركا بالانتظار وقد استحبه له كثير من الفقهاء ، وكان أصحابنا البصريون يخرجون القولين في الاستحباب وليس بصحيح : وإنما القولان في الكراهة ، فإذا قيل بقوله في القديم : فوجهه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى ، وأجلس الحسن عند قدميه ، فلما سجد ركب الحسن على ظهره ، فأطال السجود ، فلما فرغ قيل له : أطلت السجود . فقال صلى الله عليه وسلم : " إن ابني ركبني ، فأطلت السجود ليقضي وطره فلما استجاز بطويله ليقضي الحسن عليه السلام وطره جاز انتظار الداخل ليدرك فضيلة الجماعة ، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بـ " ذات الرقاع " ، وانتظر الطائفة الأولى قائما في الركعة الثانية من صلاته ليتم صلاتها ، ثم انتظر الطائفة الثانية جالسا في الركعة الثانية ، ليتم صلاتها ، ثم يسلم بها ، فلما انتظر الطائفتين في موضعين دل على جواز الانتظار لإدراك فضل الجماعة ، وأنه غير مكروه .

وإذا قيل بقوله في الجديد فوجهه قوله صلى الله عليه وسلم : من أم قوما فليخفف ، فإن فيهم السقيم والضعيف ، وذا الحاجة وفي انتظاره تطويل على من خلفه ، وتثقيل ، ولأنه يسقط خشوعه بانتظاره ، وتوقع مجيئه ، وإتيان ما يسقط الخشوع مكروه : ولأن انتظاره ليدرك الصلاة معه يدعوه إلى ترك المبادرة والتواني عن الإسراع إلى الجماعة ، وإذا لم ينتظره تخوف فوت الجماعة ، فارتدع عن الإبطاء ، والزجر عن التواني ، فكانت المصلحة فيه أتم ، ولأنه لو أقيمت الصلاة لم يحل للإمام انتظار من لم يحضر ، لا يختلف فيه المذهب فلأن لا يجوز الانتظار في وسط الصلاة أولى :

التالي السابق


الخدمات العلمية