الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " فإن ترك ابنين كبيرا وصغيرا أو غائبا وحاضرا ، أكذب أخاه وأراد الآخر اليمين ، قيل له : لا تستوجب شيئا من الدية إلا بخمسين يمينا ، فإن شئت فاحلف خمسين يمينا وخذ من الدية مورثك ، وإن امتنعت فدع حتى يحضر معك وارث تقبل يمينه ، فيحلفان خمسين يمينا . فإن ترك ثلاثة بنين ، حلف كل واحد منهم سبع عشرة يمينا ، يجبر عليهم كسر اليمين . فإن ترك أكثر من خمسين ابنا ، حلف كل واحد منهم يمينا يجبر الكسر من الأيمان " . قال الماوردي : وهذه المسألة وما يليها تتفرع على القول الذي يقسم فيه أيمان القسامة على قدر المواريث . فإذا خلف المقتول ابنين ، أحدهما صغير والآخر كبير ، أو أحدهما حاضر والآخر غائب ، أو أحدهما مدع قتل أبيه ، والآخر مكذب له ، فإن للكبير أن يقسم قبل بلوغ الصغير ، وللحاضر أن يقسم قبل قدوم الغائب ، فأما المكذب ؛ فهل تسقط قسامته بتكذيب أخيه أم لا ؟ على قولين نذكرهما في الباب الآتي ، فإن أراد [ ص: 41 ] البالغ الحاضر أن يقسم ، أو المكذب في أحد القولين ، قيل له : لا يحكم لك بحقك من الدية إلا أن تستوفي أيمان القسامة كلها . وإن كان يلزمك في الاجتماع بعضها : لأن عدد الأيمان حجة لك في قبول دعواك كالبينة ، فلم يجز أن يحكم بها إلا بعد استيفائها ، كما لا يحكم بالبينة إلا بعد كمالها . فإذا حلف خمسين يمينا حكم له بحقه من الدية ، فإذا بلغ الصغير ، أو قدم الغائب لم يحكم له بحقه من الدية حتى يحلف على دمه . فإن قيل : فالأيمان في القسامة حجة كالبينة ، فهلا كان وجودها من بعضهم حجة لجميعهم كالبينة ؟ قيل : الفرق بينهما من وجهين :

أحدهما : أن النيابة في إقامة البينة تصح ، وفي الأيمان لا تصح .

الثاني : أن البينة حجة عامة ، والأيمان حجة خاصة ، فلهذين الفرقين لم يثبت حقه فيها بأيمان أخيه ، وإن ثبت حقه ببينته .

فإذا أراد أن يحلف حلف خمسة وعشرين يمينا : لأنه واحد من اثنين فصارا بعد أيمان الأخ كالمجتمعين ، فلو كان معهما ثالث غائب ، حلف إذا حضر سبعة عشر يمينا : لأنه واحد من ثلاثة . فإن كان معهم رابع ، حلف إذا حضر ثلاثة عشر يمينا : لأنه واحد من أربعة . مثال هذا : الشفعة إذا استحقها أربعة وحضر أحدهم ، كان له أخذ جميعها ، ولم ينفرد بحقه منها : لأنه قد يجوز أن يعفو عنها شركاؤه ، فصار فيها كالمنفرد بها ، فإذا قدم الثاني أخذ النصف : لأنه واحد من اثنين ، فإذا قدم الثالث أخذ الثلث : لأنه واحد من ثلاثة . فإذا قدم الرابع أخذ الربع : لأنه واحد من أربعة .

قال الشافعي : " فإن ترك أكثر من خمسين ابنا حلف كل واحد منهم يمينا يجبر عليه كسر اليمين " . وهذا صحيح : لأن اليمين لا تتبعض ، فلذلك جبرنا كسرها ، كما يجبر كسر الطلاق والإقرار ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية