الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " قال : ولو شهدا أنه ضربه بسيف وقفتهما ، فإن قالا : فأنهر دمه ومات مكانه . قبلتهما وجعلته قاتلا ، وإن قالا : لا ندري أنهر دمه أم لا ، بل رأيناه سائلا . لم أجعله جارحا حتى يقولا : أوضحه هذه الموضحة بعينها " .

قال الماوردي : قد مضى الكلام في الشهود ، فأما صفة الشهادة : فيجب أن تكون مفسرة لا احتمال فيها : لقول الله تعالى : إلا من شهد بالحق وهم يعلمون [ الزخرف : 86 ] ، فإذا قال الشاهدان : رأيناه قد طلبه بسيف وغابا عنا ، ثم رأيناه قتيلا ، أو جريحا . لم تقبل هذه الشهادة : لجواز أن يكون قد قتله أو جرحه غيره ، وهكذا لو قالا : قد رأيناه وقد ضربه بسيف ثم غابا ، ووجدناه قتيلا أو جريحا . لم تقبل : لجواز ما ذكرنا من قتل غيره أو جراحة غيره . فإن قالا : رأيناه وقد ضربه بسيفه فأنهر دمه ومات مكانه ، قبلت هذه الشهادة : لأن ظاهر موته أنه من إنهار دمه . فإن ادعى الجارح أنه مات من غير جراحته ، لم يقبل منه مع الشهادة عليه بموته عقيب جراحته ، ولا يحلف وليه . وإن قالا : أنهر دمه ، ولم يشهدا بموته ، نظر في موته ، فإن بعد زمان لا يجوز أن تندمل [ ص: 75 ] فيه الجراحة ، حكم على الجارح بالقتل : لأن ظاهر موته قبل اندمال الجراحة أنه منها . فإن ادعى الجارح أنه مات من غيرها ، فهو محتمل ، وإن كان بخلاف الظاهر ، فيحلف الولي أنه مات من الجراحة ، وإن كان موته بعدها بزمان يجوز أن تندمل فيه الجراحة ، حكم عليه بالجراحة ، ولم يحكم عليه بالقتل حتى يقيم وليه البينة ، أنه لم يزل ضمنا مريضا حتى مات ، فيحكم عليه حينئذ بالقتل .

فإن ادعى موته من غيره أحلف وليه لقد مات من جراحته ، ولكن لو شهد الشاهدان أنه ضربه بسيفه ولم يشهدا أنه أنهر دمه لم يكن جارحا : لأنه ليس كل مضروب بسيف ينجرح به ، وهكذا لو قالا : ضربه بسيفه فسال دمه ، لم تقبل شهادتهما : لجواز أن يسيل من فتح عرق أو رعاف . ولو قالا : ضربه بسيفه فأسال دمه ، قبلت شهادتهما : لأنهما أضافا سيلان الدم إليه ، بخلاف ما تقدم . فإن شهدا أنه أوضحه في رأسه ، فإن عينا الموضحة حكم فيها بالقصاص أو الدية ، وإن لم يعيناها نظر ، فإن لم يكن في رأسه غير موضحة واحدة ، كانت هي المشهود بها ، وإن لم يعين حكم فيها بالقصاص أو الدية ، وإن كان في رأسه مواضح جماعة ، حكم فيها بالدية ، ولم يحكم فيها بالقصاص : لأن الدية تجب في كل موضحة على كل موضع من الرأس ، فلم يفتقر إلى التعيين ، والقصاص لا يجب إلا بعد تعيين الموضع من الرأس ، وقدرها في الطول والعرض . وهكذا لو شهد أنه قطع إحدى يديه ، ولم يعيناها ، فإن كانت إحدى يديه باقية وجب القصاص في الدامية أو الدية ، وإن لم يعين : لأنها صارت ببقاء الأخرى معينة في الدامية ، وإن كان مقطوع اليدين لم يحكم له بالقصاص : لأنه لا يدري مستحقه في يمنى أو يسرى ، وحكم له بالدية : لاستوائها في اليمنى واليسرى ، ثم على هذا القياس فيما سواه . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية