الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي ، رضي الله عنه : " ومن أحرم في مسجد ، أو غيره ، ثم جاء الإمام فتقدم بجماعة فأحب إلي أن يكمل ركعتين ، ويسلم يكونان له نافلة ، ويبتدئ الصلاة معه ، وكرهت له أن يفتتحها صلاة انفراد ، ثم يجعلها صلاة جماعة ، وهذا يخالف صلاة الذين افتتح بهم النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة ، ثم ذكر ، فانصرف ، فاغتسل ، ثم رجع ، فأمهم لأنهم افتتحوا الصلاة جماعة ، وقال في القديم : قال قائل : يدخل مع الإمام ويعتد بما مضى . ( قال المزني ) : هذا عندي على أصله أقيس لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن في صلاة فلم يضرهم وصح إحرامهم ولا إمام لهم ، ثم ابتدأ بهم وقد سبقوه بالإحرام وكذلك سبقه أبو بكر ببعض الصلاة ، ثم جاء فأحرم ، وائتم به أبو بكر ، وهكذا القول بهذين الحديثين وهو القياس عندي على فعله صلى الله عليه وسلم " .

[ ص: 337 ] قال الماوردي : وهذا كما قال : إذا أحرم الرجل منفردا بفرض وقته من ظهر ، أو عصر في مسجد ، أو غيره ، ثم دخل الإمام فأنشأ الإحرام بتلك الصلاة جماعة ، فيختار لهذا المنفرد أن يتم صلاته ركعتين ويسلم ، يكونان له نافلة ، ويبتدئ الإحرام بتلك الصلاة خلف الإمام ليؤدي فرضه في جماعة ، وإن قطع صلاته ، وابتدأ الإحرام خلف الإمام جاز ، وقد بطل حكم ما ابتدأه منفردا ، وإن بنى على صلاته منفردا ، ولم يتبع الإمام جاز ، وإن تبع الإمام بإحرامه المتقدم وعلق صلاته بصلاته فقد أساء ، وفي بطلان صلاته قولان :

أحدهما : قاله في القديم ، والإمام صلاته باطلة .

والقول الثاني : هو الذي نقله المزني ويقتضيه مذهبه في الجديد لما علل به في القديم أن صلاته جائزة ، لأنه قال في القديم : ومن أجاز الصلاة بإمامين أجاز هذا ، ومذهبه في الجديد جواز الصلاة بإمامين ، وبه قال أبو حنيفة .

ومن أصحابنا من خرج في صلاته قولا ثالثا ، إن كان قد سبقه بقدر الإحرام فصلاته جائزة ، وإن كان قد سبقه بقدر ركعة فصلاته باطلة ، ومنهم من أنكر هذا القول ، وجعل المسألة على قولين في الموضعين .

فإذا قيل ببطلان صلاته ، فوجهه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا فأمر أن يكون تكبير المأموم عقيب تكبير الإمام ، فوجب إذا سبقه بالتكبير أن تبطل صلاته لمخالفة أمره صلى الله عليه وسلم ، ولأنه عقد صلاته قبل صلاة الإمام ، فوجب أن لا يجوز له الائتمام فيها بالإمام . أصله ما نص عليه الشافعي فيمن وقف خلف الإمام ليحرم معه فسبق إمامه بالإحرام نص الشافعي على بطلانه كذلك في مسألتنا لعلة ما ذكرنا ، ولأن المأموم يلزمه اتباع إمامه في موقفه وأفعاله ، ثم تقرر أنه إن تقدم إمامه في موقف الصلاة لم يجز ، فكذلك إذا تقدمه في أفعالها .

وإذا قيل بصحة صلاته في القول الثاني ، فوجهه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بأصحابه ، ثم ذكر أنه جنب ، فقال لهم : " كونوا كما أنتم " ودخل ، واغتسل ، وخرج ، ورأسه يقطر ماء ، واستأنف الإحرام وبنى القوم على إحرامهم ، فلما سبقوه بالإحرام ولم يأمرهم باستئنافه ، وقد خرجوا بالجنابة من إمامته دل على صحة صلاة المأموم إذا سبق الإمام ببعض صلاته ، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر ، رضي الله عنه ، على الصلاة ، فأحرم بهم ، ثم وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة فتقدم ، وتأخرأبو بكر ، رضي الله عنه ، وصلى الناس خلف النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد سبقوه بالإحرام ، ولأن صلاة الجماعة لا تنعقد إلا بإمام ومأموم فلما جاز للإمام أن يفتتح صلاة انفراد ثم يأتم [ ص: 338 ] به رجل فتصير جماعة ، جاز للمأموم أن يفتتح الصلاة منفردا ، ثم يأتم برجل فتصير صلاة جماعة .

وتحريره قياسا أن نقول : إنها صلاة افتتحها منفردا فجاز أن تصير صلاة جماعة كالإمام ، ولأن الصلاة طرفان ابتداء وانتهاء ، فلما جاز أن يكون في ابتدائها جامعا ، وفي انتهائها منفردا إذا أحدث إمامه أو مات ، جاز أن يكون في ابتدائها منفردا وفي انتهائها جامعا ، ولأن صلاة الانفراد أنقص من صلاة الجماعة ، وبناء الأفضل على الأنقص جائز فيما يصح إتيانه منفردا ، كبناء صلاة المسافر على صلاة المقيم .

التالي السابق


الخدمات العلمية