الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 93 ] فصل :

فإذا تقرر ما ذكرنا من تفسير الآية التي هي أصل يستنبط منه أحكام السحر ، فقد اختلف أهل العربية في معنى السحر في اللغة على وجهين :

أحدهما : أنه إخفاء الخداع وتدليس الأباطيل ، ومنه قول امرئ القيس :

أرانا موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب

أي نخدع .

والوجه الثاني : قاله ابن مسعود : كنا نسمي السحر في الجاهلية العضه . والعضه : شدة البهت وتمويه الكذب .

وأنشد الخليل :

أعوذ بربي من النافثات     ومن عضه العاضه المعضه

والكلام في السحر يشتمل على ثلاثة فصول :

أحدها : في حقيقة السحر .

والثاني : في تأثير السحر .

والثالث : في حكم السحر .

فأما الفصل الأول : في حقيقة السحر ، فقد اختلف الناس فيها ، فالذي عليه الفقهاء ، والشافعي وأبو حنيفة ومالك وكثير من المتكلمين : أن له حقيقة وتأثيرا . وذهب معتزلة المتكلمين والمغربي من أهل الظاهر ، وأبو جعفر الإستراباذي من أصحاب الشافعي : إلى أن لا حقيقة للسحر ولا تأثير ، وإنما هو تخييل وتمويه كالشعبذة ، لا تحدث في المسحور إلا التوهم والاستشعار استدلالا بقوله تعالى : في قصة فرعون وموسى فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى [ طه : 66 ، 67 ] ، فأخبر أنه تخييل لا حقيقة له ، وذلك أنهم جعلوا فيما مثلوه بالحيات من الحبال والعصي زئبقا ، واستقبلوا بها مطلع الشمس فلما حمي بها ساح وسرى ، فسرت تلك الحبال كالحيات السارية ، ومعلوم من هذا أنه تخييل باطل ، ولأنه لو كان للسحر حقيقة لخرق العادات ، وبطل به المعجزات وزالت دلائل النبوات ، ولما وقع الفرق بين النبي والساحر ، وبين الحق والباطل ، وفي هذا دفع لأصول الشرائع وإبطال [ ص: 94 ] الحقائق وما أدى إلى هذا فهو مدفوع عقلا وشرعا . والدليل على أن للسحر حقيقة وتأثيرا ما قدمناه من الآية على ما بيناه من التفسير مع اختلاف ما تضمنها من التأويل ، ولو لم تكن له حقيقة لأبان فساده ولذكر بطلانه ، ولما كان للنهي عنه موقع ، وفي هذا رد لما نطق به التنزيل ، فكان مدفوعا ، ويدل عليه قوله تعالى : ومن شر النفاثات في العقد [ الفلق : 4 ] . والنفاثات السواحر ، في قول الجميع ، ينفثن في عقد الخيط للسحر .

روى الحسن ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ، ومن سحر فقد أشرك ، ومن تعلق شيئا وكل إليه فلو لم يكن للسحر تأثير لما أمر بالاستعاذة من شره ، ولكان السحر كغيره .

ويدل عليه ما روى أبو صالح ، عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتكى شكوى شديدة ، فبينما هو كالنائم واليقظان إذا ملكان أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه ، فقال أحدهما : ما شكواه ؟ فقال : مطبوب - أي مسحور ، والطب السحر - قال : ومن طبه ؟ قال لبيد بن أعصم اليهودي ، وطرحه في بئر ذروان تحت صخرة فيها .

فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر فاستخرج منها وترا فيه إحدى عشرة عقدة ، فأمر بحل العقد ، فكان كلما حل عقدة وجد راحة حتى حلت العقد كلها ، فكأنما نشط من عقال .

فنزلت عليه المعوذتان وهما إحدى عشرة آية بعدد العقد ، وأمر أن يتعوذ بهما ، وقد روي هذا الخبر من طرق شتى تختلف ألفاظه وتتفق معانيه ، ورواه الشافعي ، عن سفيان بن عيينة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث أياما يخيل إليه أنه يأتي النساء ولا يأتيهن ، فاستيقظ ذات ليلة وقال : يا عائشة ، قد أفتاني ربي فيما استفتيته فيه ، أتاني رجلان في المنام . . . وذكرت مثل حديث ابن عباس على اختلاف في الألفاظ .

وإذا أثر في رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فعل ، وأثر فيه حين نشط مع ما عصمه الله تعالى من بين خلقه ، كان أولى أن يؤثر في غيره . فإن قيل : رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم من السحر لما في استمراره من خلل العقل ، وقد أنكر الله تعالى على من قال في رسوله وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا [ الفرقان : 8 ] ، قيل : عصمة الرسول مختصة بعقله ودينه ، وهو في المرض كغيره من الناس ، وقد سم يهود خيبر ذراعا مشوية ، وقدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأكل منها ومرض في آخر عمره ، فكان يقول : ما زالت أكلة خيبر تعادني ، فهذا أوان قطعت أبهري فكان في ذلك كغيره . ولما أجرى الشيطان على لسانه حين قرأ في سورة النجم أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى [ النجم : 19 ، 20 ] ، تلك [ ص: 95 ] الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى . أزال الله تعالى ذلك عنه وعصمه منه ، ويدل عليه ما روى نافع ، عن ابن عمر ، قال : أرسلني عمر بن الخطاب إلى خيبر لأقسم ثمارها بينهم وبين المسلمين فسحروني ، فتكوعت يدي ، فأجلاهم عمر عن الحجاز . فلولا أن للسحر حقيقة وتأثرا لما أجمع عليه الصحابة ، وانتشر في الكافة ، ولما أجلاهم عمر من ديارهم ، ولراجعته الصحابة فيهم كما راجعوه في غيره من الأمور العظيمة المحتملة .

وقد روى بجالة ، قال : كتب عمر أن اقتلوا كل ساحر وساحرة . فقتلنا ثلاث سواحر . يدل عليه أن الله تعالى جعل معجزة موسى في العصا : لكثرة السحر في زمانه ، ومعجزة عيسى بإحياء الموتى : لكثرة الطب في زمانه ، ومعجزة محمد صلى الله عليه وسلم القرآن : لكثرة الفصحاء في زمانه .

فلو لم يكن للسحر حقيقة ، كما للطب والفصاحة حقيقة ، لضعفت معجزة موسى في علوه على السحرة : لأنه دفع ما لا تأثير له ، وليس لدفع ما لا تأثير له تأثير ، وإنما التأثير في دفع ما له تأثير ، كما كان لإحياء الموتى تأثير على الطب ، ولفصاحة القرآن على فصاحة الكلام تأثير .

فأما الجواب عن استدلالهم بالآية : فهو أن حقيقة السحر آثاره ، وإن لم تكن لأفعال السحر حقيقة ، وقد أثر سحرهم في موسى ما أوجسه من الخوف في نفسه .

وأما الجواب عن استدلالهم بما فيه خرق العادات وإبطال المعجزات : فهو خرق العادات في غير السحرة وليس بخرق العادات في السحرة ، كما أن الشعبذة خرق العادات في غير المتشعبذة وليس بخرق العادات في المتشعبذة . وليس فيه إبطال المعجزات : لأن الشعبذة في خرق العادات كالسحر ، وليس فيها إبطال المعجزات ، فكذلك السحر : لأن خرق العادات بالمعجزات مخالف لخرقها بالسحر والشعبذة : لأن أفعال المعجزات حقيقة وأفعال السحرة مستحيلة : لأن موسى لما فلق البحر ظهرت أرضه حتى سار فيه موسى وقومه على اليابس ، ولما ألقى السحرة حبالهم حتى ظنها الناظر حيات ظهر استحالتها ، وعادت إلى حالها ، والله ولي العصمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية