الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : وإذا سحر رجلا فمات ، سئل عن سحره : فإن قال : أنا أعمل هذا لأقتل فأخطئ القتل وأصيب وقد مات من عملي ، ففيه الدية ، وإن قال : مرض منه ولم يمت . أقسم أولياؤه لمات من ذلك العمل ، وكانت الدية ، وإن قال : عملي يقتل المعمول به ، وقد عمدت قتله به ، قتل به قودا " .

قال الماوردي : وأما السحر : فهو ما يخفى فعله من الساحر ، ويخفى فعله في المسحور ، فلا يمكن أن يوصف في الدعوى على الساحر ، ولا تقوم به بينة في المسحور . فإذا ادعى رجل على ساحر أنه سحر وليا له ، فقتله بسحره لم يستوصف عن السحر [ ص: 98 ] لخفائه عليه ، ولا يكلف البينة لامتناعها ، فإذا امتنعا رجع إلى سؤال الساحر هل سحر أو لم يسحر ؟ فإن أنكر أن يكون ساحرا ، أو اعترف بالسحر ، وأنكر أن يكون قد سحره ، فالقول قوله مع يمينه ولا شيء عليه . وإن اعترف أنه سحره سئل عن سحره ؛ لأن آثار السحر مختلفة وليس يمكن العمل فيها إلا على قول الساحر ، ولا يخلو حال بيانه من أربعة أقسام :

أحدها : أن يقول : عمدت سحره ، وسحري يقتل في الأغلب ، وإن جاز أن لا يقتل . فهذا قاتل عمد محض وعليه القود .

وقال أبو حنيفة : لا قود عليه بناء على أصله في أن لا قود إلا بالمحدد ، ودليلنا : أنه قتله بما يقتل مثله في الأغلب ، فوجب أن يستحق في عمده القود كالمحدد .

والقسم الثاني : أن يقول : سحري لا يقتل في الأغلب ، وإن جاز أن يقتل ، وقد مات من سحري . فهذا قاتل عمد شبه الخطأ ، عليه الدية مغلظة دون القود .

وقال أبو حنيفة : لا دية عليه ، احتجاجا بأن القتل إنما يضمن بالمباشرة ، أو بالأسباب الحادثة عن المباشرة . وليس في السحر واحد منها ، فلم توجب ضمان النفس كالشتم والبهت .

ودليلنا : هو أن القتل حدث عن سبب قاتل ، فجاز أن يتعلق به ضمان النفس كالسم وحفر البئر ، ولأنه ليس يمتنع أن ينفصل من السحر ما يتصل بالمسحور ، كما ينفصل من المتثاوب ما يتصل بالمقابل له فيثاوب ، وكما ينفصل من نظر الذي يعين ما استحسن فيتصل بالمعين والمستحسن ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : العين حق كما أنا حق وفي هذا الدليل انفصال .

والقسم الثالث : أن يقول : سحري يمرض ولا يقتل ، وقد أمرضه سحري ومات بغيره . فهذا يعتبر فيه حال المسحور ، فإن لم يزل ضمنا مريضا من وقت السحر إلى وقت الموت ، فالظاهر منه حدوث موته من مرض سحره ، فيكون القول قول ولي المسحور مع يمينه . وإن كان قد انقطع عنه المرض وصار داخلا خارجا ، فالظاهر من موته أنه بسبب حادث غير سحره ، فيحلف الساحر لقد مات من غير سحره ، كالجراحة إذا حدث بعدها موت المجروح ، واختلف الولي والجارح ، فإن لم يندمل الجرح وكان على ألمه فالقول قول الولي مع يمينه ، وإن اندمل وزال الألم ، فالقول قول الجارح مع يمينه .

والقسم الرابع : أن يقول : سحري قد يمرض ولا يمرض ، وما أمرضه سحري . فالقول قوله مع يمينه ولا شيء عليه ، ويعزر أدبا وزجرا ، ويستتاب ، فإن لم يتب عزر إذا سحر ولا يعزر بعد امتناعه من التوبة ، إذا لم يسحر . وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية