الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل :

فإذا تكاملت الشروط المعتبرة في قتالهم ، لم يبدأ به الإمام حتى يسألهم عن سبب انفرادهم ومباينتهم ، فإن ذكروا مظلمة أزالها ، وإن ذكروا شبهة كشفها وناظرهم عليها ، حتى يظهر لهم أنه على الحق فيها : لأن الله تعالى أمر بالإصلاح أولا ، وبالقتال أخيرا .

ولأن علي بن أبي طالب أنفذ ابن عباس رضي الله عنهما إلى الخوارج بالنهروان ، [ ص: 103 ] يسألهم عن سبب مباينتهم ويحل شبهة تأويلهم : لتظاهرهم بالعبادة والخشوع وحمل المصاحف في أعناقهم ، فقال لهم ابن عباس : هذا علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته ، وقد عرفتم فضله فما تنقمون منه ؟

قالوا : ننقم منه ثلاثا :

حكم في دين الله ، وقد أغنى كتاب الله وسنة رسوله عن التحكيم .

وقتل ولم يسب ، وكان ينبغي له إما أن يقتل ويسبي أو لا يقتل ولا يسبي : لأنه إذا حرمت أموالهم فقد حرمت دماؤهم .

ومحا اسمه من الخلافة ، فإن كان على حق فلم خلع ، وإن كان على غير حق فلم دخل ؟

فقال ابن عباس : أما قولكم : إنه حكم في دين الله ، فقد حكم الله تعالى في الدين فقال : وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها [ النساء : 35 ] .

وقال تعالى : يحكم به ذوا عدل منكم [ المائدة : 65 ] ، فحكم في أرنب قيمته درهم ، فبأن يحكم في هذا الأمر العظيم أولى . فرجعوا عن هذا .

فقال : وأما قولكم : كيف قتل ولم يسب ؟ فلو حصلت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في سهم أحدكم كيف يصنع ؟ وقد قال الله تعالى : ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا [ الأحزاب : 53 ] .

قالوا : رجعنا عن هذه .

قال : وأما قولكم : إنه محا اسمه من الخلافة حين كتب كتاب التحكيم بينه وبين معاوية ، فقد محا رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه من النبوة حين قاضى سهيل بن عمرو عام الحديبية ، وقد كتب كتاب القضية بينه وبين قريش علي بن أبي طالب ، فكتب : هذا ما قاضى محمد رسول الله سهيل بن عمرو . فقال سهيل : لا تكتب " رسول الله " ، فلو علمنا أنك رسول الله ما خالفناك ، فاكتب " محمد بن عبد الله " .

فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي : امحه . فقال : لا أستطيع أن أمحو اسمك من النبوة . [ ص: 104 ] فقال له : أرنيه ، فأراه ، فمحاه بإصبعه
.

فرجع بعضهم وبقي منهم نحو أربعة آلاف لم يرجعوا ، فعاد إلى علي بن أبي طالب فأخبره ، فقال لأصحابه : سيروا على اسم الله تعالى إليهم ، فلن يفلت منهم عشرة ، ولن يقتل منكم عشرة ، فساروا معه إليهم فقتلهم ، وأفلت منهم ثمانية ، وقتل من أصحاب علي تسعة ، وقال : اطلبوا لي ذا الثدية .

فرأوه قتيلا بينهم ، فكبر علي ، وقال : الحمد لله الذي صدق وعد رسوله إذ قال لي : تقاتلك الفئة الباغية فيهم ذو الثدية . فهذه سيرة علي بن أبي طالب فيهم .

وقد حكي عن الشافعي أنه قال : أخذ المسلمون السيرة في قتال المشركين من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وأخذوا السيرة في قتال المرتدين من أبي بكر رضي الله عنه .

وأخذوا السيرة في قتال البغاة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية