الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل :

فأما مانعو الزكاة من بعد فضربان :

أحدهما : من منعها مستحلا لمنعها ، فيكون باستحلال المنع مرتدا ، وإن لم يكن المانع منها في عهد أبي بكر مرتدا .

والفرق بينهما : أن المنع الأول كان قبل الإجماع على إبطال ما اشتبه عليهم من حكم الآية ، فكان لتأويل الشبهة مساغا ، والمنع الحادث بعده قد انعقد الإجماع على إبطال الشبهة فيه ، فلم يكن للتأويل مساغ ، فافترقا في حكم الردة : لافتراقهما في حال الإجماع .

ومثاله : شارب الخمر في عصر الصحابة لما استحل شربها بشبهة تعلق بها في قوله تعالى : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا [ المائدة : 93 ] ، لم يكفر لاحتمال شبهته ، فلما أجمع الصحابة على بطلان هذا التأويل صار مستحلها كافرا .

والضرب الثاني : أن يمنعوا منها غير مستحلين لمنعها ، فيجوز قتالهم على أخذها منهم .

وقال أبو حنيفة : لا يجوز قتالهم على منعها مع إقرارهم بوجوبها : لأمرين :

أحدهما : لتعلقها بأموالهم دون أبدانهم ، فكان المال هو المطلوب دونهم .

والثاني : أن الله تعالى قد ائتمنهم على أدائها فكانت كالأموال الباطنة .

ودليلنا : قول أبي بكر للصحابة رضي الله عنهم في مانعي الزكاة : والله لو منعوني عناقا أو عقالا مما أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه .

فوافقوه عليه بعد مخالفتهم له ، فدل على انعقاد الإجماع به .

ولأنهم لما قوتلوا لامتناعهم من حق الإمام في الطاعة ، كان قتالهم في امتناعهم من حق الله تعالى في الزكاة أولى ، ولأن العبادات نوعان : على أبدان ، وفي أموال ، [ ص: 112 ] فلما قوتلوا في عبادات الأبدان قوتلوا في عبادات الأموال .

وقولهم : إن المال هو المطلوب فصحيح ؛ لكن لما لم يوصل إليه إلا بقتالهم ، صار قتالهم موصلا إلى أخذ الحق منهم ، وما أوصل إلى الحق كان حقا .

وأما الأموال الباطنة ففيها جوابان :

أحدهما : أنه لا نظر للإمام فيها ، فلم يحاربهم عليها ، وخالفت الأموال الظاهرة .

والثاني : أنه لا يمتنع أن يقاتلوا على إخراجها إلى مستحقيها ، وإن لم يقاتلوا على دفعها إلى الإمام .

التالي السابق


الخدمات العلمية