الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رحمه الله : " والفيئة الرجوع عن القتال بالهزيمة أو الترك للقتال ؛ أي حال تركوا فيها القتال فقد فاؤوا وحرم قتالهم : لأنه أمر أن يقاتل ، وإنما يقاتل من يقاتل ، فإذا لم يقاتل حرم بالإسلام أن يقاتل ، فأما من لم يقاتل فإنما يقال : اقتلوه لا [ ص: 115 ] قاتلوه . نادى منادي علي رضي الله عنه يوم الجمل : ألا لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح ، وأتي علي رضي الله عنه يوم صفين بأسير ، فقال له علي : لا أقتلك صبرا إني أخاف الله رب العالمين ، فخلى سبيله والحرب يوم صفين قائمة ، ومعاوية يقاتل جادا في أيامه كلها منتصفا ، أو مستعليا ، فبهذا كله أقول وأما إذا لم تكن جماعة ممتنعة فحكمه القصاص ، قتل ابن ملجم عليا متأولا فأمر بحبسه ، وقال لولده : إن قتلتم فلا تمثلوا ، ورأى عليه القتل ، وقتله الحسن بن علي رضي الله عنه ، وفي الناس بقية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فما أنكر قتله ولا عابه أحد ، ولم يقد علي - وقد ولي قتال المتأولين - ولا أبو بكر من قتله الجماعة الممتنع مثلها على التأويل على ما وصفنا ولا على الكفر ، وإن كان بارتداد إذا تابوا ، قد قتل طليحة عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم ، ثم أسلم فلم يضمن عقلا ولا قودا ، فأما جماعة ممتنعة غير متأولين قتلت وأخذت المال ، فحكمهم حكم قطاع الطريق . ( قال المزني ) رحمه الله : هذا خلاف قوله في قتال أهل الردة : لأنه ألزمهم هناك ما وضع عنهم ههنا ، وهذا أشبه عندي بالقياس " .

قال الماوردي : وأصل هذا : قول الله تعالى : فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله [ الحجرات : 9 ] .

فكان قوله : فقاتلوا يتضمن الأمر بقتالهم لا بقتلهم .

وقوله : حتى تفيء إلى أمر الله هو الغاية في إباحة قتالهم .

والفيئة في كلامهم : الرجوع ، وهو على ثلاثة أضرب تتفق أحكامها وإن اختلفت أنواعها :

أحدها : أن يرجعوا إلى طاعة الإمام والانقياد لأمره ، فهو غاية ما أريد منهم ، وقد خرجوا به من البغي اسما وحكما ، وصاروا داخلين في أحكام أهل العدل .

والضرب الثاني : أن يلقوا سلاحهم مستسلمين ، فالواجب الكف عنهم : لأن الله تعالى أمر بقتالهم لا بقتلهم ، وخالفوا أهل الحرب إذا ألقوا سلاحهم في جواز قتلهم : لأن الأمر في أهل الحرب متوجه إلى قتلهم ، وفي أهل البغي إلى قتالهم .

والضرب الثالث : أن يولوا منهزمين فيجب الكف عنهم ، ولا يتبعوا بعد هزيمتهم .

فقد نادى منادي علي يوم الجمل : ألا لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح ، وروى جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده علي بن الحسين ، عليهم السلام قال : دخل علي [ ص: 116 ] مروان فقال لي : ما رأيت أكرم غلبة من أبيك ، ما كان إلا أن ولينا يوم الجمل حتى نادى مناديه : ألا لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح .

ولما ولى الزبير عن القتال وخرج عن الصف ، قال علي : أفرجوا للشيخ فإنه محرم ، فمضى وتبعه عمرو بن جرموز حتى ظفر باغتياله فقتله بوادي السباع ، وأتى عليا برأسه ، فقال علي : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : بشر قاتل ابن صفية بالنار . فقال عمرو : أف لكم إن كنا معكم أو عليكم في النار ، فقام وهو يقول :

أتيت عليا برأس الزبير وكنت أظن بها زلفتي     فبشر بالنار قبل الوعيد
وبئس بشارة ذي التحفة

وولى طلحة بن عبيد الله ، فلم يعرض له أحد من أصحاب علي حتى رماه مروان بن الحكم بسهم في أكحله فقتله ، وكان في عسكر طلحة والزبير ، فلما كان في الليل سار علي عليه السلام ومعه قنبر مولاه بمشعلة يتصفح القتلى ، فمر بطلحة قتيلا ، فوقف عليه وبكى وقال :

أعزز علي أبا محمد أن أراك مجدلا تحت نجوم السماء ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، شفيت غيظي وقتلت معشري ، إلى الله أشكو عجري وبجري ، ثم أنشأ يقول :

فتى كان يعطي السيف في الروع حقه     إذا ثوب الداعي ويشقى به الجور
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه     إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر

التالي السابق


الخدمات العلمية