الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " ولو أن قوما أظهروا رأي الخوارج وتجنبوا الجماعات وأكفروهم لم يحل بذلك قتالهم . بلغنا أن عليا رضي الله عنه سمع رجلا يقول : لا حكم إلا لله في ناحية المسجد ، فقال علي رضي الله عنه : كلمة حق أريد بها باطل ، لكم علينا ثلاث : لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله ، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا ، ولا نبدؤكم بقتال " . قال الماوردي : أما الخوارج ، فهم الخارجون عن الجماعة بمذهب ابتدعوه ورأي اعتقدوه ، يرون أن من ارتكب إحدى الكبائر كفر وحبط عمله ، واستحق الخلود في النار ، وأن دار الإسلام صارت بظهور الكبائر فيها دار كفر وإباحة ، وأن من تولاهم وجرى على حكمهم فكذلك .

فاعتزلوا الجماعة وأكفروهم ، وامتنعوا من الصلاة خلف أحد منهم ، وسموا شراة ، واختلف في تسميتهم على وجهين :

[ ص: 118 ] أحدهما : أنه تسمية ذم ، سماهم به أهل العدل : لأنهم شروا على المسلمين وحاربوا جماعتهم . والثاني : أنه تسمية حمد ، سموا بها أنفسهم : لأنهم شروا الدنيا بالآخرة ، أي : باعوها .

فإذا اعتقد قوم رأي الخوارج وظهر معتقدهم على ألسنتهم ، وهم بين أهل العدل غير منابذين لهم ولا متجرئين عليهم ، تركوا على حالهم ، ولم يجز قتلهم ولا قتالهم ، ولم يؤخذوا جبرا بالانتقال عن مذهبهم ، والرجوع عن تأويلهم ، وعدل إلى مناظرتهم وإبطال شبهتهم بالحجج والبراهين ، وإن كانوا عليها مقرين .

فقد أقرهم علي بن أبي طالب عليه السلام قبل أن يعتزلوه ، وسمع قائلهم يقول : لا حكم إلا لله تعريضا به في تحكيمه يوم صفين .

فقال علي : كلمة حق أريد بها باطل . وهذا أحسن جواب لمن عرض بمثل هذا القول . ثم قال : لكم علينا ثلاث : لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله ، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا ، ولا نبدؤكم بقتال .

فجعل هذه الأحكام فيهم كهي في أهل العدل ، واقتضى في ذلك سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين في كفه عنهم مع علمه بمعتقدهم : لتظاهرهم بطاعته مع استبطان معصيته .

فإن صرح الخوارج بسب الإمام ، وسب أهل العدل ، عزروا للأذى وذبا عن منصب الإمامة .

وإن عرضوا به من غير تصريح ، ففي تعزيرهم وجهان :

أحدهما : لا يعزرون : لأن عليا لم يعزر من عرض ، لفرق ما بين التعريض والتصريح .

والثاني : أنهم يعزرون : لأن الإقرار على التعريض مفض إلى التصريح ، فكان التعزير حاسما لما بعده من التصريح .

التالي السابق


الخدمات العلمية