الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وقال لي قائل : ما تقول فيمن أراد دم رجل أو ماله أو حريمه ؟ قلت : يقاتله ، وإن أتى القتل على نفسه إذا لم يقدر على دفعه إلا بذلك ، وروي حديث النبي صلى الله عليه وسلم : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، وزنى بعد إحصان ، وقتل نفس بغير نفس قلت : هو كلام عربي ، ومعناه إذا أتى واحدة من الثلاث حل دمه ، فمعناه كان رجلا زنى محصنا ثم ترك الزنى وتاب منه وهرب ، فقدر عليه ، قتل رجما . أو قتل عمدا وترك القتل وتاب منه وهرب ، ثم قدر عليه قتل قودا . وإذا كفر ثم تاب ، فارقه اسم الكفر . وهذان لا يفارقهما اسم الزنى والقتل ولو تابا وهربا " .

قال الماوردي : هذا سؤال اعترض به على الشافعي من منع من قتال أهل البغي : لأن قتالهم مفض إلى قتلهم ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يحل دم امرئ مسلم إلا [ ص: 128 ] بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، أو زنى بعد إحصان ، أو قتل نفس بغير نفس . وليس الباغي واحدا من هؤلاء الثلاثة ، وجعل هذا السؤال مقصورا فيمن أريد دمه أو ماله أو حريمه ، كيف يجوز له قتل من أراده بذلك ؟

فاقتضى السؤال دليلا على الحكم وانفصالا عن الخبر .

فأما الدليل على أن من أريد دمه أو ماله أو حريمه يجوز له دفع من أراده وإن أتى الدفع على نفسه - على ما سنذكره من بعد من ترتيب الدفع بحال بعد حال - قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قتل دون ماله فهو شهيد .

والشهيد مظلوم ، وللمظلوم دفع الظلم عن نفسه بالقتال ، وما أبيح من القتال لم يجب به ضمان .

وأما الانفصال عن الخبر فمن وجهين :

أحدهما : أنه أباح القتل بثلاثة شروط اختلفت معانيها واتفقت أحكامها :

أحدها : بالكفر بعد الإيمان ، فلا يجوز العفو عنه ، ويسقط بالتوبة منه ، ويزول عنه اسم الكفر بعد التوبة .

والثاني : بالزنى بعد الإحصان ، لا يجوز العفو عنه ، ولا يسقط بالتوبة منه بعد القدرة ، وفي سقوطه قبل القدرة خلاف ، ولا يزول عنه اسم الزنى بعد التوبة .

والثالث : بقتل نفس بغير نفس ، وهذا يجوز العفو عنه ، ولا يسقط بالتوبة ، ولا يزول عنه اسم القتل بالتوبة .

فلما اختلفت المعاني والأسماء ، صارت معاني القتل هي المعتبرة دون العدد المحصور .

والثاني : أنه لسان عربي لا يمنع أن ينضم إلى العدد المحصور ما في معناه ، ولا تكون الزيادة عليه رافعة لحكمه كما قال الله تعالى : وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر [ الأعراف : 142 ] .

وعلى أن للخبر تأويلين يغنيان عن هذين الجوابين :

أحدهما : لا يحل قتله صبرا إلا بإحدى ثلاث ، وهذا لا يقتل صبرا وإنما ينتهي حاله إلى القتل دفعا . [ ص: 129 ] والثاني : لا يحل قتله بسبب متقدم إلا بإحدى ثلاث ، وهذا لا يقتل بسبب متقدم ، وإنما يقتل بسبب حادث في الحال .

التالي السابق


الخدمات العلمية