الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل :

فأما المكره على الكفر والردة بالقتل ، فموسع له بين الإمساك عن كلمة الكفر والصبر على القتل ، وبين التلفظ بكلمة الكفر استدفاعا للقتل .

فقد أكرهت قريش بمكة عمار بن ياسر وأبويه على الكفر ، فامتنع منه أبواه فقتلا ، وتلفظ عمار بالكفر فأطلق ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعذر عمارا وترحم على أبويه .

وقيل : إنه نزل فيه : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [ النحل : 106 ] .

فإن قيل : فأي الأمرين أولى به ؟

قيل : يختلف باختلاف حال المكره .

فإن كان ممن يرجى منه النكاية في العدو أو القيام بأحكام الشرع ، فالأولى به أن يستدفع القتل بإظهار كلمة الكفر .

وإن كان ممن يعتريه من ضعف بصيرته في الدين ، أو يمتنع به من أراد الإسلام من المشركين ، فالأولى به الصبر على القتل والامتناع من إظهار كلمة الكفر .

روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن في الجنة لقصرا لا يسكنه إلا نبي أو صديق أو محكم في نفسه .

فقيل : إن المحكم : هو الذي يخير بين الكفر والقتل ، فيختار القتل على الكفر .

فإن تلفظ بكلمة الكفر ، فله في التلفظ بها ثلاثة أحوال :

إحداهن : أن يتلفظ بلسانه وهو معتقد للإيمان بقلبه ، فهو على إسلامه ، وليس لتلفظه حكم إلا استدفاع القتل : لقول الله تعالى : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [ النحل : 106 ] ، وهذا مطمئن القلب بالإيمان .

والحال الثانية : أن يتلفظ بلسانه معتقدا له بقلبه ، فهذا مرتد : لأنه وإن أكره على التلفظ فلم يكره على الاعتقاد ، فصار ممن قال الله تعالى فيه : ولكن من شرح بالكفر صدرا أي يسقط حكم الإكراه بالاعتقاد .

والحال الثالثة : أن يتلفظ بلسانه مطلقا من غير أن يقترن به اعتقاد إيمان ولا كفر ، ففيه وجهان :

أحدهما : يكون على إسلامه : لأن ما حدث من الإكراه معفو عنه .

والوجه الثاني : أن يكون مرتدا حتى يدفع حكم لفظه بمعتقده : لأنه لا عذر له في تركه .

[ ص: 181 ] وهكذا المكره على الطلاق ، تعتبر فيه هذه الأحوال الثلاث في لفظه ومعتقده .

التالي السابق


الخدمات العلمية