الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل :

فإذا كملت هذه فشروط الأربعة وجب الرجم ، ولم يكن الإسلام شرطا فيه .

وقال أبو حنيفة : الإسلام شرط خامس معتبر في الجناية : فإن عدم ، سقط الرجم : احتجاجا برواية نافع ، عن عبد الله بن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من أشرك بالله فليس بمحصن .

وبما روي أن كعب بن مالك أراد أن يتزوج يهودية فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : دعها عنك ، فإنها لا تحصنك .

قال : ولأنها حصانة من شرطها الحرية ، فوجب أن يكون من شرطها الإسلام كالحصانة في القذف . ولأن من لم يحد قاذفه لم يرجم كالعبد .

ودليلنا : رواية عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا ، ولا يرجم إلا محصنا . فدل على أن الإسلام ليس بشرط في حصانة الرجم . فإن قيل : إنما رجمهما بالتوراة ، ولم يرجمهما بشريعته : لما روي أنه قال لكعب بن صوريا ، وقد حضره مع جماعة من اليهود : أسألكم بالله ما تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ قال : الجلد والتحميم . فأمر بإحضار التوراة : لتقرأ عليه ، فلما انتهوا في قراءتها إلى موضع الرجم وضع ابن صوريا يده عليه ، فقال عبد الله بن سلام للنبي صلى الله عليه وسلم : إنه قد وضع يده على موضع الرجم . فأمره النبي صلى الله عليه وسلم برفع يده ، فإذا فيه ذكر الرجم يلوح ، فقال لهم : ما حملكم على هذا ؟ فقال كعب بن صوريا أجد في كتابنا الرجم ، ولكن كثر الزنا في أشرافنا فلم [ ص: 197 ] نر إقامته إلا على الأدنياء وندع الأشراف ، فجعلناه الجلد والتحميم والتجبية ، - يريد بالتحميم تسويد الوجه ، مشتق من الحممة وهي الفحمة . ويريد بالتجبية : أن يركبا على حمار أو جمل وظهر كل واحد منهما إلى ظهر صاحبه - فرجمهما حينئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : أنا أول من أحيا سنة أماتوها .

قيل : الجواب عن هذا من وجهين :

أحدهما : أن الله تعالى قد أمره أن يحكم بينهم بما أنزله عليه بقوله : وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم [ المائدة : 49 ] ، فلم يجز أن يكون حكمه عليهم بتوراتهم .

والثاني : أنه إذا كان من شريعته الرجم وهو موافق لما في التوراة كان حكمه بشريعته لا بالتوراة ، وإنما أحضرها لإكذابهم على إنكارهم وجود الرجم فيها .

ومن القياس : أن كل من كان من أهل الجلد الكامل إذا كان بكرا ، كان وطؤه في النكاح الصحيح يوجب أن يكون محصنا كالمسلم : ولأن من ملك رجعتين في نكاح كان محصنا كالمسلم ، وفيهما احتراز من العبد ومن غير الواطئ في نكاح .

فأما الجواب عن حديث ابن عمر فمن وجهين :

أحدهما : أن معنى قوله : فليس بمحصن . أي : ليس بممتنع من قبيح .

والثاني : أنه محمول على إحصان القذف .

فأما الجواب عن حديث كعب بن مالك ، فراويه ابن أبي مريم ، عن علي بن أبي طلحة ، عن كعب ، وابن أبي مريم ضعيف ، وابن أبي طلحة لم يلق كعبا ، فكان منقطعا .

ولو صح ، لكان الجواب عن قوله : " فإنها لا تحصنك " من وجهين :

أحدهما : أنه أراد به الترغيب في نكاح المسلمات والتزهيد في نكاح الكتابيات : لأنه لا يجوز أن يريد تحصين الزنا في أصحابه ليرجموا ، وقد صانهم الله تعالى عنه : لاختيارهم لنصرة دينه والجهاد عليه مع رسوله .

والثاني : أن معناه : أنها لا تعفك عن نكاح غيرها ، إما لقبحها أو سوء معتقدها .

وأما الجواب عن قياسهم على حصانة القذف فمن وجهين :

أحدهما : أنه قياس يدفع النص ، فكان مطرحا .

والثاني : أن المعنى في حصانة القذف اعتبار الصفة فيها ، فكان أولى أن يعتبر فيها الإسلام ، [ لما لم يعتبر العفة في حصانة الزنا ، كان أولى أن لا يعتبر فيها الإسلام ] . [ ص: 198 ] وأما الجواب عن قياسهم على العبد : فهو أنه منتقض بمن ليس بعفيف يرجم إن زنا ، ولا يحد قاذفه . ثم المعنى في العبد : أنه إن لم يكمل جلده فلم يجب رجمه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية