الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : [ حكم إتيان البهائم ]

وأما الفصل الثالث في إتيان البهائم ، فهو من الفواحش المحرمة .

روى ابن أبي فديك ، عن إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حنيفة ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة .

ورواه أبو سلمة ، عن أبي هريرة . وقد روى الشافعي هذا الحديث في اختلاف علي وعبد الله ، وقال : إن صح قلت به . لأن في روايته ضعفا ، فإن كان صحيحا قتل وقتلت البهيمة . وإن لم يصح ، ففيه ثلاثة أقاويل :

أحدها : يقتل ، وفيه ما قدمناه من الوجهين :

أحدهما : رجما بالحجارة ، قاله البغداديون .

والثاني : صبرا بالسيف ، قاله البصريون ، وسواء كان بكرا أو ثيبا . ولأنه فرج لا يستباح بحال ، فكان حكمه أغلظ .

[ ص: 225 ] والقول الثاني : أنه في حكم الزنا ، يرجم إن كان ثيبا ، ويجلد ويغرب إن كان بكرا ؛ لأن حد الزنا أصل لما عداه . مخرج من قوله في كتاب الشهادات .

والقول الثالث : لأنهم يعدون الاستمناء وإتيان البهائم زنا ، فاقتضى هذا من كلامه أن لا يكون زنا ، ولا يجب فيه حد ، ويعزر فاعله ، وهو مذهب مالك ، وأبي حنيفة ، والثوري لأمرين : أحدهما : لأنه لا حرمة لها تمنع من النظر إليها ، ولا يجب الوضوء من مسها .

والثاني : لنفور النفوس منها وميلها إلى الآدميين ، فوجب الحد فيما مالت إليه النفوس ، وسقط فيما نفرت منه النفوس ، كما وجب الحد في شرب الخمر لميل النفوس إليه ، وسقط في شرب البول لنفور النفوس منه ، فعلى هذا : إن جعلناه موجبا للحد أوجبنا الغسل بالإيلاج فيه . وإن لم نوجب الحد ، ففي وجوب الغسل بالإيلاج وجهان :

أحدهما : يجب به الغسل : لأنه فرج محرم .

والوجه الثاني : لا غسل إلا بالإنزال : لأنه يصير في حكم المباشرة في غير فرج . فأما البهيمة فقد أغفل الكلام فيها ، واختلف أصحابنا في وجوب قتلها على وجهين ، بناء على اختلافهم في حده ، هل هو مأخوذ من الخبر أو الاستدلال ؟

أحدهما : أنها لا تقتل ، إذا قيل : إن حد إتيانها مأخوذ من القياس والاستدلال .

والوجه الثاني : يجب قتلها ، إذا قيل : إنه مأخوذ من الخبر . وسواء كانت البهيمة له أو لغيره . وحكى الطحاوي في " مختصره " : أنها تقتل إن كانت له ، ولا تقتل إن كانت لغيره . وهذا الفرق لا وجه له لعموم الخبر .

فإن قيل : فما المعنى في قتلها وليس على البهائم حدود ؟

قيل : ليست تقتل حدا ، وفي معنى قتلها أمران :

أحدهما : للستر على من أتاها ، أن لا ترى فيقذفه الناس بإتيانها .

والثاني : أن لا تأتي بخلق مشوه ، فقد قيل : إن بعض الرعاة أتى بهيمة ، فأتت بخلق مشوه . فعلى هذا : تقتل ذبحا لا رجما . وفي إباحة أكلها إن كانت مأكولة اللحم وجهان :

أحدهما : لا تؤكل ، ويشبه أن يكون قول ابن عباس : لأن النفوس تعاف أكلها وقد أتيت .

والوجه الثاني : تؤكل : لأن إتيانها لم ينقلها عن جنسها المستباح . وهل يلزم غرمها لمالكها إن كانت غير مأكولة ، أو كانت مأكولة ؟ فقيل : لا تؤكل ؟ على وجهين :

[ ص: 226 ] أحدهما : لا غرم له : لأن الشرع أوجب قتلها .

والوجه الثاني : يغرم له قيمتها : لاستهلاكها عليه ويكون غرمها ، على من أتاها لاستهلاكها بفعله .

التالي السابق


الخدمات العلمية